تقدَّم الطبُّ تقدُّماً هائلاً وتوفَّرت أدويةٌ ولقاحاتٌ وتحصينات قضي بها على كثيرٍ من الأمراضِ المعُدية والطواعين المفزعة التي تهلك الكبير والصغير والأمم بأجمعها،فصارت بحمد الله جزءاً من التاريخِ الغابر،وصارَ علماءُ الطب وخبراؤُه على جانبٍ كبيرٍ من المهارةِ والدرايةِ أهَّلتهم لإجراءِ أدقِّ العمليات وأصعبها،ففتَحوا الرؤوسَ والصدور،وشقوا البطون والقلوب،وفصلوا التوائم السيامية، وزرعوا الأعضاء وتعاملوا مع الأجنة،وأظهروا مهاراتٍ فائقة وحققوا نجاحاتٍ كبيرةً،إلا أنه ومع كلِّ هذا التقدم والتطور ظلَّ كثيرٌ من الناس يشتكي أمراضاً مزمنةً وأعراضاً مُقلقةً،لم يعرف لها الأطباءُ أسباباً ولم يجدُوا لها علاجاً حتى الآن كأمراض السرطان المهلكة وغير مما أنزله الله ولم يعلم له دواء عافانا الله وإياكم منها،ولنتبين سبباً من أسبابِ كثير من الأوجاع المضنية والآلام المبرحة التي أقضت مضاجع أناس كثيرين..نقف اليوم مع سبب لبعض الأمراض بإذن الله..
جاء في مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ فَلُبِطَ سَهْلٌ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ فَقيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ قَالَ هلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ قَالُوا نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ هَلا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ اغْتَسِلْ لَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ كأنما نشط من عقال..
حديثنا عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه،وكما قال

إنَّها العين،قال

جاءت الإشارةُ إلى العينِ في القرآنِ الكريم على لسان يعقوببخوفه على أبنائه يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ
وهكذا يفعل المؤمنون بالأسباب،ويبقى التوكّل على الله ملاذاً آمنا ومعتقداً صادقاً،يأخذون بالحيطة والحذر،ويؤمنون بالقضاء والقدر،ويثقون بقدرة ربِّ البشر وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
وجاء في القرآن أيضاً إخبار من الله إلى رسوله عن حسد الكافرين له بأبصارهم: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لَيُزْلِقُونَكَ أي:يعينونك بأبصارهم،بمعنى يحسدونك.
أيها الإخوة..وينبغي أن يُعلمَ أن العينَ إنسيّةٌ وجنية،بمعنى أنها تصيبُ من الجنّ كما تصيبُ من الإنس،فعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سفعة

عباد الله..ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله قال

أما المسرفونَ بأمرِ العين فتطاردهم الأوهام ويحاصرُهم القلق ويضعف عندهم اليقين ويختلُّ ميزانُ التوكل،وبين هؤلاءِ الجفاةِ والغُلاةِ تقفُ طائفةٌ من الناس موقفاً وسطا،تؤمنُ بالعين وتصدّقُ بآثارِها نقلاً وعقلاً،ولا تُغالي فتنسبُ كلُّ شيءٍ إليها،تتقي العينَ قبلَ وقوعِها،وتفعلُ الأسبابَ المأذونَ بها شرعاً بعد وقوعها.
أيُّهَا المسلمون..وإذا كان هذا كله يقال((للمصاب بالعين))،فيقال((للعائن)):اتقِ الله،ولا تضرّ أحدا من إخوانك المسلمين،وإيّاك والحسد فإنه منفذٌ للعين،فكل عائنٍ حاسد،وليس كلُّ حاسدٍ عائناً،ولما كان الحاسدُ أعمّ من العائن كما قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ والعائنُ ربما فاتتْه نفسه أحيانا فوقعت منه العين وإن لم يُردْها،وقد يكونُ العائنُ صالحاً،وربما أصابَ أقربَ الناسِ إليه وإن لم يقصدْ من والدٍ أو ولد،ولذا يُوصَى المسلمُ عموماً والعائنُ خصوصاً بذكر الله والتبريك حينما يعجبُه شيء،وهي وصيةٌ المصطفى يأمرنا بها

إن النفوسَ المؤمنةَ لا يفارقُها الذكر،ولا ترضى للآخرين بالضُرِّ،ويصاحبُهَا الدعاءُ والتبريكُ والشكر، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ أما بعضُ من نراهم اليوم يفتخرُ أمامَ الناس بألفاظهم وعيونهم التي يسعون لإصابةِ الناس بها فهذا شرٌّ عظيمٌ يوجب عليهم تركه والتوبة منه حتى على سبيلِ المزحِ بطرق الوصف..على أنَّ المسلمَ ينبغي أن يحتاطَ لنفسِه،ويدفعَ غوائلَ الشرِّ عنه ما استطاع،وإذا كانت العينُ سهماً تخرجُ من نفسِ الحاسدِ أو العائنِ نحو أحدٍ فهي تصيبُ تارةً وتخطئُ تارة،فإن صادفتْه بلا وقايةٍ أثَّرت فيه ولا بد،وإن صادفتْه حذراً شاكيَ السلاح لا منفذَ فيه للسهامِ لم تُؤثِّر فيه،والوقايةُ من العينِ وغيرها من الشرور هي بالأذكارِ والأورادَ الشرعيةِ فهي أعظمُ ما يحفظُ الله بها الإنسان وعائلته،فاسمُ الله الأعلى لا يضرُّ معه شيء،و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ما تعوذ متعوذٌ بمثلهما،وقراءُة آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظُ الله بهما عباده المؤمنين،وغير ذلك من أوراد الصباح والمساء..قال ابن القيم:"ومما يدفع به إصابة العين قول:ما شاء الله لا قوة إلا بالله،ومنها رقية جبريل للنبي التي رواها مسلم في صحيحه

ولقد رخص النبي بالرقيةِ،وقال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها




عباد الله..وإذا كان التبريك سبباً واقياً بإذن الله من وقوع العين فإن اغتسال العائن ووضوءه بماء يصب على المعين شفاءٌ له بإذن الله كما حصل بين الصحابة وهو مفسرٌ لقوله

أيها الأحبة..ويبقى بعد ذلك أمر مهم ننبه عليه وهو أن لا نكثر من التطير والتشاؤم،وأن تحسن الظن بالله،وتقوي جانب التوكل عليه،وأن يلازمنا الفأل الحسن،فقد كان يعجبه الفأل،ونهى عن الطيرة فقال

صحيح أن العين حق،ولكن الذي ينبغي أن لا ينسى أن للذنوب أثراً في وقوع المصائب،كيف لا والحق تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ؟! قال الحسن:لما نزلت هذه الآية قال

ويقول تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ روى الإمام مسلم عن أبي هريرة>قال:لما نزلت هذه الآية بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً،فقال


ألا فاحتسبوا ما يقدر الله عليكم من المصائب والأسقام،واستغفروا ربّكم واشكروه،ولا تحيلوا كل شيءٍ للعين وإن كانت العين حقا.عصمني الله وإياكم من الذنوب والآثام،وعافنا والمسلمين من كيد الفجار،وحسد الحساد بسم الله.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ بسم الله. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ نفعني الله
الخطبة الثانية ..
الحمد لله وحده......أما بعد فاتقوا الله عباد الله ..
إن العجب كل العجب،في أولئك المصابين بالعين،حين يستبدلون الرقى والعزائم الشركية بالرقى والعزائم الشرعية،جاهلين أو متجاهلين،خطورة هذا المسلك وتبعاته برقي وتمائم تعلق أو توشم لا يعرف معناها أو تحتوي على الشرك وإن لم يعرف صاحبها..فعن عوف بن مالك الأشجعي قال:"كنا نرقي في الجاهلية فقلنا:يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟فقال

والرقية ينبغي أن لا يكون فيها شركٌ ولا معصيةٌُ؛كدعاءِ غيرِ الله أو الإِقسامِ بغيرِ الله وأن تكون مما يعرف معناه وأن لا يعتقد صاحبها كونها مؤثرة بنفسها.ومن الناس من يذهب إلى أناس غير موثوقين للعلاج عندهم طمعهم للنقود أو يستخدمون السحر والشعوذة ولو لم يظهروا ذلك فواجب الانتباه لهم ..فهذا أمرٌ خطير..
وبعدُ ـ عباد الله ـ،فإن كون العين حق،أمرٌ ثابتٌ شرعاً وواقعاً وعقلاً،وحينما تظهر أمامنا هذه الحقيقة جلية،فإن من الأخطاء الشائعة،والبلايا المعقدة أن يصبح المرض بالعين شبحاً مروعاً أو هاجساً متدلياً إلى الذهن عند كل وخزةِ ألمٍ،أو نكسةِ نفسٍ،حتى يصل الأمر بذلك إلى درجة الوهم لدى الناس،ويستدرجهم الشيطان إلى المرض بوهم العين ويقعدهم عن العمل وإبراز القدرات وهذا هو الداء العُضَال؛إذ لا يزيد الوهم إلا وهنا..أعاذنا الله وإياكم منه..
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وبادروا بالرقى والأذكار الشرعية،وليتق الله العائن وليذهب من قلبه الحسد إن وجد،وإلا فليطفئ نار إعجابه بالشيء بذكر الله أعاذنا الله وإياكم بكلماته التامة من كل شيطان وهامة،ومن كل عين لامة..والله نسأل أن يكفينا جميعاً شر الأوبئة والأمراض ويكبت كل حاسدٍ وفاجرٍ وألا يؤاخذنا بذنوبنا..اللهم احفظ على بلادنا الأمن والإيمان،وكفنا شر الاعتصامات التي تؤدي إلى الفتن وتقلق البلاد والعباد واهد شبابنا للصلاح والإصلاح،وأصلح أحوالنا وجنبنا الفساد والشرور واجمع كلمتنا على الحق والدين ونصرة عبادك المؤمنين..برحمتك يارب العالمين..