فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إخوة الإيمان: يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه الترمذي وصحّحه: ((لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، لكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم..)) الرجل الضعيف هو الذي يستعبده العرف الغالب، وتتحكم في أعماله التقاليد السائدة، حتى ولو كانت خطا يجرّ معه متاعب الدنيا والآخرة، أما الإنسان القوي الطموح فهو معين لا ينضب للنشاط الموصول، والحماسة المذخورة، واحتمال الصعاب، ومواجهة الأخطار، بل لديه الدوافع الحثيثة للبحث عن الحقيقة، ولو دفعه ذلك لصراع الأعداء أو لقاء الموت.
إخوة الدين والعقيدة: من الحكمة أن نسعى ونطمح إلى كل خير يوصلنا إلى عبادة الله الصحيحة من الخطأ، السليمة من الشرك، الخالية من التقصير والأهواء المضلّة، سواء كان ذلك عن طريق العلم النافع أو العمل الصالح أو الخلق القويم، والحكمة ضالة المؤمن يقبلها أنى وجدها فهو أحق بها.
وحين نبحث عن الحكمة ونطمح نراها في العلم النافع والحق المبين، في كتاب رب العالمين وسنة سيد الأنبياء المرسلين، قال : ((لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنتي..))، إن تلك المعاني نراها متحققة واضحة جليّة في قصة سلمان، ولم يكن سلمان قرشيا، وكما لم يكن عربيا، بل سلمان ابن الإسلام سلمان الفارسي .
روى الإمام أحمد بسند صحيح في مسنده وابن سعد في الطبقات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثنا سلمان الفارسي ذات مرة فقال: ((كنت رجلا من أصبهان، وكان أبي دهقان أرضه، أي راهبهم، وكنت من أحب عباد الله إليه، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار التي توقد، ولا تخبو، وكان لأبي ضيقة أرسلني إليها يوما، فمررت بكنيسة للنصارى فسمعتهم يصلون، فأعجبتني صلاتهم فقلت: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، فما رجعت حتى أرسل إلي أبي في أثري، وسألت النصارى عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام، وقلت لأبي حين عدت إليه ما رأيت وأُعجبت به، فجعل في رجلي حديداً وحبسني، فأرسلت إلى النصارى أني قد دخلت في دينهم، وأن يبحثوا لي عن ركب إلى الشام لأرحل معهم، وقد فعلوا فحطمت الحديد، وخرجت، وانطلقت إلى الشام فسألت عن عالمهم فقالوا لي: الأسقف. فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم، وكان رجل سوء في دينه يجمع الصدقات من الناس ليوزّعها ثم يكتنزها لنفسه، ثم مات، فجاءوا بآخر جعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيراً منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة وزُهدا في الدنيا ودأبا على العبادة. وأحببته حبا عظيما فلما حضره قدره، قلت له: بم تأمرني وإلى من توصي بي؟ فقال: أي بني، ما أعرف أحداً من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل، فلما توفي أتيت صاحب الموصل فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم ثم حضرته الوفارة فسألته فدلني على عابد في نصيبين، ثم أتيته وأخبرته وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفارة أمرني أن الحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه وأقمت معه واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات، ثم حضرته الوفاة فقلت له: إلى من توصي به؟ فقال: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه أوصيك به، لكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفا يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرّتين، فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة إذا رأيته عرفته.
ومر بي ركب ذات يوم فسألتهم عن بلادهم فعلمت أنهم من جزيرة العرب فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم، واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، فظلموني وباعوني إلى رجل من اليهود، ورأيت نخلا كثيرا فطمعت أن تكون هي ما أقصّ من مهاجر النبي المنتظر، وأقمت عند الرجل الذي اشتراني حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد الذي وُصف لي، وأقمت معه أعمل له في نخله حتى بعث رسول الله ، وقدم المدينة وإني لفي رأس نخلة يوما وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمّه، فقال: يخاطبه قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العرواء فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي ثم نزلت سريعاً أقول: ماذا تقول؟ ما الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فأقبلت على عملي.
ولما أحسست جمعت ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئت رسول الله بقباء فدخلت عليه ومعه نفرٌ من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله وأمسك هو فلم يأكل، فقلت لنفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة، ثم رجعت وعدت إليه عليه السلام في الغداة، أحمل طعاماً، وقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه والله الثانية: إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته فوجدته في البقيع قد تبع جنازة وحوله أصحابه وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة فسلمت عليه ثم عدلت لأنظر إلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله فإذا العلامة بين كتفيه، خاتم النبوة كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبّله وأبكي، ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدّثته بحديثي وهو يحب أن يسمعه أصحابه.
ثم أسلمت وحال الرّق بيني وبين شهود بدر وأحد وذات يوم قال لي رسول الله : ((كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أغرسها وأربعين أوقية ثم دعا الرسول الصحابة ليعينوني حتى اجتمعت لي ثلاثمائة نخلة، فلما صفرت لها جاء عليه الصلاة والسلام فجعل يضع النخل بيده، فوالذي نفسُ سلمان بيده ما مات منها نخلة واحدة، وأعطيتهم الباقي فعتقت، وشهدت مع رسول الله الخندق ثم لم يفتني معه مشهد)).
إخوة الإيمان: إن هذه القصة تحمل المعاني والمواقف العظيمة والتضحيات الجسيمة في كل ما يملك الإنسان من أجله الدين الحق الذي هو أغلى وأعز من كل شيء، فأي إنسان شامخ كان سلمان الفارسي، أي توفيق عظيم أحرزته روحه المتطلّعة، وفرضته إرادته الغلاّبة على المصاعب فقهرها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولاً؟ أي ولاء للحقيقة أخرج صاحبه طائعاً مختارا من ضياع أبينه وثرائه ونعمائه، إلى المجهول بكل مشاقه وأعبائه، ينتقل من أرضٍ إلى أرض، ومن بلد إلى بلد، ناصباً كادحاً عابداً، ويظلّ في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقاً، فيجمعه الله بعد ذلك بالحق، ويلاقيه برسوله مؤمنا مسلماً، ثم يشهد بعينيه رايات الله تخفق في كل مكان في الأرض هدى وعمراناً وعدلاً.
إن عبرا عظيمة ينبغي الوقوف عليها في قصة سلمان الفارسي، فلقد رأينا فيها تحكيم العقل الذي هو أساس كل فضيلة، وهو طريق الحق فما أن تبين أن دينا خيرا من دينه حتى بادر بالإستجابة إليه، والسؤال عن أصل هذاالدين نابذا الأهواء والضلالات التي يعيشها قومه من كبر وجهل وعصبية، كما نرى فيها توجيه الدعوة لأبيه بترك ما هم فيه من ضلال وخرافة بعبادتهم لنار لا تلبث أن تنطفئ.
رأينا في قصة سلمان الخير، وهذا كان لقبه ورأينا حبّه للعلم الموصل للحق بسؤاله عن أصل هذا الدين وإصراره للوصول إليه وحين نتحدث عن سلمان الفارسي نتحدث عن الشخصية التي بذلت كل شيء في سبيل امتلاك اليقين وحيازة الحقيقة، نتحدث عن رجل هجر الخرافة والأسطورة والارتحال في كل فج، وإلى كل صقع، طلبا للعلم الذي يتحقق فيه الصعود في الدنيا والسرور في الآخرة.
نرى كذلك في قصة سلمان الفارسي تضحيته بنفسه وأهله وبلده وماله وقومه وما يدينون به، فلقد ضحّى بحياة القصور التي تعيشها عائلته إلى حياة كلّفته إنفاق صدر شبابه في رحلة اليقين، كما ضحى بحريته فقبل عبودية الجسد ليظفر بحرية المعتقد، قبل عبودية الشكل ليذوق حلاوة العبودية لله، كل ذلك لأنه وجد أن الحق هو الرباط الوحيد الذي يجمعه لا رباط النسب ولا الجنس ولا العرق ولا اللون أو غيرها ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظم أن تكون من الجاهلين .
رأينا في قصة سلمان الفارسي الهمة الكبيرة والعزم القوي للوصول إلى ما ينفعه في دينه من العلم، فحين نتحدث عن سلمان نتحدث عمن طلب الراحة على جسر المتاعب، وعمّن أراد أن يعيش لذة البحث الدائمة عن الكمال نتحدث عن الشخصية التي رأت كمالها في بحثها الدائم عن الكمال فلم ترض بحضور منقوص وجناح مقصوص ولا بعلم يضيء الدنيا ويضيع الآخرة، والعقيدة تسوّق الواقع وتسوّغه ولا تنقذه..و تتمشى هذه العقيدة جبناً و خوراً مع المتغيرات ..
رأينا في قصة سلمان الفارسي تجشم المتاعب وعدم يأسه وتحمله مشاق التنقل من بلد إلى بلد في سبيل الاستزادة من العلم حتى خدم العلماء من أجل ذلك، بل صبر على الغدر والخيانة والضرب والإهانة كل هذا في سبيل الوصول إلى الحياة العزيزة الشريفة، نرى في قصة سلمان فرحة الشديد عند لقائه برسول الله حتى أنه بكى من شدة الفرح كالظمآن حين يقع على نبع الماء، وذلك عندما يتيقن من صدق نبوته عليه الصلاة والسلام.
ومن فضل الله سبحانه ورحمته أنه لا يخيّب جهاد عبد تعب في الوصول إلى الحقيقة ويكرمه بعد ذلك حتى وصل إلى مكانة عظيمة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى قال عنه: (سلمان منّا آل البيت)، وهكذا كان حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الحق والرجوع إليه والبحث عنه وما زادهم تواضعهم للحق إلا رفعة، فمن تواضع لله رفعه فالحق ضالتهم أنى وجدوه قبلوه وتمسكوا به دون تردد، عن صغير أو كبير من غني أو فقير من رجل أو امرأة.
أما حال كثير من الناس مع الأسف فهو عدم المبالاة فيما ينفعهم في أمر دينهم، فهؤلاء لا يكلفون أنفسهم أدنى تكلفة في سبيل البحث عن العلم الحق الذي يحيي القلب بذكر الله ويحميه من الأمراض وينجيه من عذاب يوم القيامة، بل تجد بعضاً منّا مع الأسف يأتي الحق عليه ويطرق مسامعه ممن يتبرّع بإيصاله وذكره ونشره، لكننا نعرض عنه حتى لا ينغص ملذاتنا، وبعض الناس لا يكتفون بهذا بل يقفون ضد الحق ويجادلون بالباطل، إما جهلاً أو نفاقا أو تبريراً، مخادعين لأنفسهم وغيرهم، معطلين تحكيم النقل والعقل، حتى انقلبت كثير من المفاهيم لدى الناس، فمشاهدة ما هبّ ودبّ من المحرمات في القنوات الفضائية وغيرها يسمونه انفتاحا ويسمّون الربا فوائد، والرشوة هدية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة وشدة وتضييقاً، وغير ذلك من المفاهيم المخادعة التي تقف ضد الحق وتشوّههه، فأين ذلك من قصة الباحث عن الحقيقة المضحي لأجلها سلمان الفارسي الذي إذا تحدثنا عنه فإننا نسقط أصنام الفلسفة اليونانية التي يُجلها البعض، كما نسقط الفلسفة الحديثة الذين أسّسوا الدنيا بمعزل عن الدين، وخلاصاً للأجساد دون نجاة للأرواح وفرّوا من الشرك إلى الكفر.
تلكم قصة سلمان الفارسي فهل نعتبر بها وبمثيلاتها من القصص والعبر التي ملأت كتب السير والتراجم نسأل الله أن يديم علينا نعمة الإسلام وأن يزيدنا من فضله ورحمته إيمانا به وطاعة له.
نسأل الله جلّت قدرته أن يجعلنا ممن يرون الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرون الباطل باطلاً ويجتنبونه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.