• ×

10:10 مساءً , الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025

الإمام مالك بن أنس

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمدُ لله أعلى معالمَ العلمِ وأعلامِه،وأظهرَ شعَائِر الشرعِ وأحكامهِ،وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدهُ لا شريكَ لهُ وأَشهدُ أَنَّ نبيَّنا مُحمداً عبدهُ ورسولُه،حثَّ على طلبِ العلمِ،وبيّنَ فضائلَه،وحذّر من أوحالِ الجهل وأوضحَ غوائلَه.صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليماً.. أما بعد فاتقوا اللهَ عبادَ الله ..
أيها الإخوةُ المؤمنون..العلماءُ هم الشموعُ التي تُضيءُ للأُمةِ طريقَ ربِّها وسنَّةَ نبيها وهم وعي الأُمةِ الحر،وفكرُها المستنير،وقلبُها النابضُ بالحياةِ،بحياتِهم تحيا الأُمة،وبموتِهم وذهابِهم تموتُ الأمةُ ويَضِلُّ الناس قال (إن الله لا ينتزعُ العلمَ انتزاعاً من صدورِ الناس،ولكنَّهُ ينتزعُ العلمَ بِقبضِ العُلماءِ،حتى إِذا لم يبْق عالمٌ اتخذَ الناسُ رُءُوساً جُهالاً فسُئلوا،فأفتوْا بغيرِ عِلمٍ، فَضلُّوا وأضلُّوا)) رواه مسلم
عبادَ الله..الحديثُ عن العظماءِ من العلماء ليس أمرًا سهلاً،فمهما اجتهدْتَ لتستوعب حياةَ أحدِهم فسيعجزُ قلمُك.
سيرةُ العظماءِ من العلماء الأوائل هي القدوةُ المثلى،وإبرازُها تحفيزٌ لفتيانِنا وفتياتِنا للإفادةِ منها فهي قبلَ أن تكون عِلْماً مبذولاً فحياتُهم مواقفُ عظيمةٌ وأقوالُهم وآراؤُهم مُهمِّة..حديثنا عن العلماء ليس تعصبًا لأحد منهم،فكل إنسان يُؤخذ منه ويُردّ إلا المعصوم لكنه بيانٌ لمكانة من يملك زمام التوجيه للناس،وبيان للأمانة الملقاة على عواتِقهِم وتوضيحٍ لنا لوجوبِ احترامهم والرجوع إِليهم.
عباد الله..عَظيمُنا اليوم إمامٌ نَشأ في طيبةِ الطيبةِ،ونهلَ من مَعينِهَا،وارتفعَ ذكرُه،ومَلأ الأَرضَ عِلمهُ،إِذا قِيلَ:عَالمُ المدينةِ،أو إمامُ دارِ الهِجرةِ لا ينصرفُ النَظرُ إِلا إِليه..إِنَّهُ الإِمامُ مَالِكُ بنُ أَنس الذي وُلد سَنةَ 93للهجرةِ ونَشأَ مُحِبًا لِلعِلمِ مُغترفًا منه،على الرغمِ من فقرِهِ وَقِلة حَالهِ..أُمُّهُ أَحسنت تَوجيهَه..أَتَتْ لَهُ وَقَالت:"اِذهب إلى ربيعةَ فتعلَّمْ مِن أَدبهِ قَبلَ عِلمهِ"فَهَذِهِ المرأَةُ عَرفَت دَورَهَا في الحياةِ،ورسالتَهَا في التَربيةِ وإِعدادِ الجيلِ،وأَنَّ الأَدبَ قرينُ العِلم،ولا قيمةَ لِلعلِم بِلا أَدبٍ،فصنعت هذه المرأة رجلاً صنع أمة،وأصبحت اختياراته الفقهية مرجعاً للملايين..وغدا الإِمامُ مَالك مَدرسةً في الأَدب ينهل طُلابُهُ مِن هَيئَتِهِ وَسِمتِه وتقتبسُ الأُمةُ مِن سِيرته..قَال ابنُ وهبٍ:"الذي تعلَّمْنا من أدبِ مَالك أَكثر مِمَّا تَعلمناهُ مِن عِلمه"وقد تعلَّموا منه عِلْمًا كثيرًا. وقال يحيى بنُ يحيى التميمي:"أقمت عند مالك بن أَنس بعدَ كمالِ سماعي منه سنةًَ أتعلَّمُ هيئَته وشمائلهَ،فإنها شمائلُ الصحابةِ والتابعين".. كان للمدينة أَثرٌ ملموسٌ في بناء شخصيته،فقد كانت المدينةُ محطاً لِكِبَارِ أَهلِ العِلم،وتواترت فيها السنةُ القوليةُ والفعليةُ خاصةً..وبدأَ مالكٌ يطلبُ العلمَ في سنٍ مبكرةٍ على يدِ هؤلاءِ الأعلامِ الكبارِ في المدينةِ ولذلك لم يحتجْ للخروجِ منها .
وجلسِ الإمام مالك للفُتيا بعد أن شَهِدَ له العلماءُ أنَّهُ مؤهلٌ لذلك يقولُ عن نفسِه:{"وليسَ كلُّ من أحبَّ أن يجلسَ في المسجدِ للحديثِ والفتيا جلس،حتى يُشاورَ فيه أهلُ الصلاحِ والفضلِ،فإن رأوه أهلاً لذلك جلس،وما جلستُ حتى شهدَ لي سبعونَ شيخًا من أهلِ العلم"}جلسَ في السابعةِ عشرةَ مِنْ عمره ليدرِّسَ العلم للناس انتبهوا أَيُّها الشباب للهمم العالية،فانتشر عِلمه،وظهرَ فضلُه،وعَلَت منزلتُه،وذاعَ صيتُه في الأمصار،وانتشرَ علمُه في الأقطار،وارتحلَ الناسُ إليه من كل مِصْر..ومكث يفتي الناس ويدرسهم أكثرَ من سبعين سنة..روى عنه في هذه المدة جمعٌ غفير من كبار أهل العلم،سمعوا منه،ورووا عنه الحديث كسفيانِ بنِ عيينة،والأوزاعي،وعبدُ الرحمن بنُ مهدي شيخُ الإمامِ أحمدِ بن حنبل،ويحيى بنُ يحيى النيسابوري شيخُ الإمامِ مسلم،وقتيبةُ بن سعيد شيخُ الإمامُ البخاري،والشافعيُّ،الذي قالَ قولتَه الخالدةليس أحدٌ أمنَّ عليَّ في دينِ الله من مالكِ بن أنس ).
عندما أصبح أبو عبد الله مالكُ بن أنس فقيهَ الحجاز فهو أولُ من يُدركُ أنَّ هذه المرتبةَ تكليفٌ لاتشريف،وأن عناصرَ المسؤوليةِ فيها أكبرُ وأكثرُ من عناصرِ الوجاهةِ الاجتماعيةِ،فكونُه فقيهَ الحِجَازِ يعني أَنَّهُ صَارَ صَمَامَ الأَمانِ لاستقرارِ المجتمعِ المسلم ليتَّجِهَ نحوَ الإنجازِ والانتاجِ ونأَى عن الانشغالِ بالخلافِ والتصنيفِ ولم يكن الهمُّ الأَكبرُ لمالكٍ رحمهُ الله عَبرَ دُرُوسِهِ في مَسجد النبيِّ أن يُخرّجَ طُلاباً ليكونُوا موظفين في دواوينِ العباسيين بل كانَ يُخرِّجُ فقهاءَ ليتحمَّلوا مسؤوليةَ العلمِ من مواقفَ ودعوةٍ وقيادةٍ للناس في شؤونِ حَياتِهم كلِّها..نظرَ مرة في وجوهِ بعضِ تَلاميذهِ الذاهبين إلى الأندلس فقالَ لأحدِهم:أنتَ تكونُ عابدَ الأندلسِ،وللآخرِ أنتَ تكونُ عالم الأندلس،وللثالثِ أَنتَ قَاضي الأَندلسِ فكان الثلاثة كما قال!!!وهذا لا يدلُّ على فراستِه فقط ولكن أيضاً على رؤيتهِ لنتائجِ مشروعهِ التعليمي والتثقيفي التربوي واستشرافه للمستقبل.
ومن أقوالهِ الفذةِ والتي تدلُّنا على فهمٍ عميقٍ للعلم قولُه:"إنما أنا بشرٌ أُخطئُ وأصيب،فانظروا رأيي فما وافقَ السَّنةَ فخذُوا به"كتب مرةً إلى الإمامِ مالك أحدُ عُبّادِ عصرِه يحضُّه على الانفراد والعمل، فردّ عليه رحمه الله:"إن الله قَسَّمَ الأعمالَ كما قسَّم الأرزاق،فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم،وآخرُ فُتح له في الصدقةِ ولم يُفتحْ له في الصوم،وآخرُ فُتح له في الجهادِ،وآخرُ فُتح له في العلم،ونشرُ العلم من أفضل الأعمال،وقد رضيتُ بما فُتحَ لي فيه،وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر"أ.هـ..كان راوياً للحديث بل كانت روايته عن نافع عن ابن عمر السلسلة الذهبية يقول البخاري عنها الأسانيد.
ومن أقواله أيضاً ومواقفهِ فقال:يا أبا عبد الله!قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فكيف استوى؟فغضب الإمام وعلاه العرق وسكت ثم،نظرَ إليه وقالالاستواءُ معلوم،والكيفُ مجهول،والإيمانُ به واجب،والسؤالُ عنه بدعة،وما أراك إلا صاحب بدعة،أخرجوه)..تأكيداً على مبادئ هامة في الأسماء والصفات في عدم الخوض في تفاصيلها..ومن أقوالِ الإمامِ الجميلةِ قولهإِنَّ هَذا العلمَ دينٌ،فانظروا عمَّن تأخذُون دينَكم)ومن أقوالهكلٌّ يُؤخذُ مِنهُ ويرد عليه إلا صاحبُ هَذا القبر -رسولُ الله -).و من أقوالهِ أيضاً(إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي)..كان مالكٌ إِذَا سُئِل عَن المسألة قالَ للسَائِل:"انصرفْ حتى أنظرَ فيها"فينصرفُ ويتردَّدُ فيها،فقْلنا له في ذلك،فبكى وقال:{"إني أخافُ أَن يَكونَ لي من السائلِ يومٌ وأيُّ يوم"}سألهَ رجلٌ ذاتَ مرةٍ جاءه من مسيرةِ ستةِ أَشهرٍ عن مسألةٍ كلَّفهَ بها أهلُ المغرب أن يسألَ الإمامَ مالكًا،فكان جوابُ الإِمام مَالك:"لا أدري،ما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا،وما سمِعْنا أحدًا من أشياخِنا تكلَّم فيها،ولكن تعود غداً وفي اليوم التالي عادَ الرجلُ فقال له الإمامُ مالك:"سألتني وما أدري ما هي"،فقال الرجلُ:يا أبا عبد الله،تركتُ خَلْفي من يقولُ:ليسَ على وجهِ الأرضِ أعلمُ منك فقال الإمامُ مالك:لا أُحسن جوابَ مَسأَلتك}فَذُهلَ الرجلُ وقالَ:أَتيتكُ مَسيرةَ سِتةِ أشهر وأهلُ بلدي ينتظرونني وأنت تقول:لا أحسن جواب مسألتِك،ماذا أقول للناس إذا ما رجعتُ إليهم؟ فقال مالك :قل لهم:قال مالكٌ بنُ أنس:لا أُحسنُ الجواب..الله وأكبر..
وسأله أَحدُهم عن مسألةٍ وطلبَ وقتًا للنظرِ فيها،فقال السائل هذه مسألةٌ خفيفة،فردَّ الإمامُ مالك: "ليس في العلم شيءٌ خفيف،أما سمعتَ قولَ الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً وقال بعضهم: لكأنَّما مالكُ ـ والله ـ إذا سُئلَ عن مسألةٍ واقفٌ بين الجنَّةِ والنار.وقال تلميذُه الإمامُ الشافعي رحمه الله تعالى: لقد صحبتُ مالكاً فسُئل عن ثمان وأربعينَ مسألة،فقال في اثنتين وثلاثين منها:لا أدري وهي درسٌ لكلِّ طالبِ علمٍ وداعيةٍ أن يقولَ لا أدري ولا يستحي ولا يتحرَّج،فإن القولَ على اللهِ بغيرِ علمٍ مزلةٌ جائرة،وهذا ما يفعلُه كثيرٌ ممن يتجرّأُ على الفتيا فهاهم هؤلاء العلماءِ الذين ملؤوا الدنيا بعلمِهم وعملهِم،يقولُ أحدهم أحيانًا:"لا أدري"،وإنك لتعجبُ أشدَّ العجبِ من أقوامٍ ليسَ لهم حظٌ يُذكرُ من العلم الشرعي يؤهِّلُهم للفتيا،ثم يقتحمون حِمَى الشريعةِ فيخوضون تحليلاً وتحريمًا،وقد تُطرح مسألة شرعيةٌ في منتدى أو مجلس فلا ينقضي المجلسُ حتى يُفتي الجميعُ على اختلافِ فئاتِهم وتخصصاتِهم،هذا يقول:في ظنِّي،وذلك:في اعتقادي،وآخرُ يجزُم بالتحليل والتحريم،فسبحانكَ ربي هل غدا التحليلُ والتحريمُ والتوقيعُ عن ربِّ العالمين مرتعًا للجهلِ والظنونِ والأوهامِ؟!لو خرجَ إلى الناسِ مهندسٌ فأخذ يمارسُ الطب ويصفُ الدواءَ للمرضى,ماذا تقولون عنه؟! وبما تصفونَه؟! وما مصيرُه؟! فكيف بمن يقتحمُ حِمَى الشريعةِ ويسوِّدُ صفحاتِ الكُتبِ والصحفِ بالتحليلِ والتحريمِ،وهو ليسَ من أهلِ الشريعةِ،فَضلاً عن أنْ يكونَ من أهلِ الفتيا،خاصةً في نوازلِ الأُمة والفتن التي لو سئل عنها عُمرُ الفاروقِ>لجمعَ لها أهل بدر؟!
لقد غدت الفتوى في عصرنا الحاضر مجالاً فسيحًا يتسابقُ فيه من يريدُ الشهرةَ أو من يلتمسُ رضى الناسِ بِسخطِ اللهِ وأنت أخي المسلم في عافيةٍ من أن تَتَكلَّم في مسألةٍ شرعيةٍ بلا علم.
إن على الأُمةِ أن تِكلَ النظرَ في مسائلِ العلمِ إلى أهلهِ من العلماءِ العاملين،وأن لا يدخلُوا فيما لا يُحسنون في أيِّ مسألةٍ من الحلالِ والحرامِ؛لأن هذا قطعٌ في حكمِ الله،يقولُ مالكٌ رحمه الله:"من أحب أن يجيبَ عن مسألةٍ فليعرضْ نفْسَه قبلَ أن يجيبَ على الجنةِ والنار،وكيف يكونُ خلاصُه في الآخرةِ،ثم يجيب"
ومن مواقف الإمام مالك أنه لم يجعل الدعوة في خدمة المال بل جعل المال في خدمة الدعوة وحافظ على كرامة العلماء من الامتهان وعلى طلب العلم وهيبة مجالسه وتميّز بذلك..مرة كان الخليفة هارون الرشيد مُتَجِهاً إلى مكةَ حاجاً،فعرَّج على المدينةِ ليحضرَ درساً لمالك في مسجدِ النبي فبُهِرَ بعلمِه وأُخذَ بفقهِه،فلما انتهى الدرسُ تحوَّلَ مالكٌ إلى بيتهِ فتبعَه الرشيدُ فجلس مالك وبسطَ رجلَه لكبرِ سنِّه،ففعلَ الرشيدُ مثلَ ذلك وكان أحدثَ سِناً من مالك فقال مالك:يا أمير المؤمنين إنَّ من إجلالِ الله أن تُجِلَّ ذَا الشيبةِ المسلم فقبضَ الرشيدُ رجليه وقال:يا أبا عبد الله جاءنا فلانُ وفلانٌ فحدَّثُونا فأعطيناهم دنانيرَ وجئناك فحدثتنا وأدَّبْتنا ثم تركَ صُرةً من الذهبِ لمالك وتوجَّه لمكةَ،فلما قضى نُسَكَهُ مرَّ بالمدينةِ وطلبَ من مالك أن يتهيَّأ لصحبتهِ إلى بغداد ليُعلِّمَ أبناءَه هناك،فماذا كان جوابُ مالك؟"إذا كان أولادُك بحاجةٍ إلى شيءٍ من هذا العلم فليطلُبُوه مع أولادِ المسلمين، فالمسلمون سواسية في حقِّ طلبِ العلم"،العلمُ الذي هو حقُّ للمسلم يشبهُ حقَّه في الهواءِ والماءِ والغذاءِ،التعليمُ الذي يبني الرجالِ وليس يُراكِمُ المال وتُصطادُ به الوظائف ثم أنهى حديثهَ للرشيد قائلاً:"إن كيس الدنانير الذي تركته ما زالَ بختمهِ أي لم يفتحه ثم تلا قولَه رداً على دعوته ليتوجه إلى العراق((المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون))ولم يكن رحمه الله معزولاً في المدينةِ بل كان يُتابعُ الحركةَ العلميةَ في أمصارِ المسلمين،فقد تعهَّد شمالَ إفريقيةَ والأندلس بطلابهِ،وشدَّتْه أواصرُ صداقةٍ وعلاقةٍ متينةٍ بفقيهِ مصر الليثُ بن سعد رحمه الهت،وكان يتابعُ فقهاءَ الشام واليمن بكتاباته .
ذكر العلامة الذهبي في سيرِ أَعلامِ النُبلاء أن أناساً دخلوا مسجدَ رسول الله فاستمعُوا إلى شيءٍ من حديثِ مالك ثم خرجوا قبل أن ينتهي الدرس فأرسلَ مالكٌ بعضَ طلابهِ ليسألَهم عن سببِ خُروجهم فقالوا:إنه ليس كإمامنا قال تلميذ مالك:ومن إمامكم قالوا:الليث بن سعد فقيهَ مصر فأتى التلميذُ مالكاً وأخبره،فقال مالك ومن مثلُ الليث،ركبتني ديون فكتبتُ إليه فأدَّاها عني،وطلبتُ منه شيئاً من صبغ فأرسل إلينا فصبغْنا وتصدَّقنا بعشرةِ آلاف دينار!!!فهل هناك أعظمُ من هذا الوفاء والنبلِ والأخلاق في التعامل بين العلماء..إنها علاقة مثالية في تحسُّسِ حاجة العالم للعالم وفي احترامهم فيما بينهم نكادُ نفتقدُها الآن ونحن نسمعُ صراعَ الخلافاتِ على أتفهِ الأسباب قال عنه الذهبي:{أنه كان إماماً يعتني بنفسه ومظهره،ويهتم بداره ولباسه،وله نعمة ظاهرة ورفعةٌ في الدنيا والآخرة}..
لما استأذنه الخليفةُ أبو جعفرٍ المنصور أن يفرضَ على الناسِ رأياً واحداً في الفقه كتابِ مالكٍ (الموطأ) الذي ألفه وتعبَ عليه رفضَ ذلك قائلاً:{إن الصحابةَ والتابعين والعلماءَ تفرَّقُوا في البلادِ وأصبحَ لأهل كلِّ مصر إماماً وعالماً،فدعهم وما اختارُوا}إنه الفقيهُ المعتدل،العالمُ ذو النظرةِ العميقةِ،إنه لا يريدُ أن يجرَّ شاسعاً أو يضيق واسعاً،ويريدُ أن تأخذَ هذه العمليةُ الفقيهةُ مجراها وتبلغَ منتهاها ولا يريدُ أن يشقَّ على المسلمين كما يفعلُ بعضُ المنتسبين إلى العلمِ في هذا الزمن بحيثُ يجعلون الناسَ في حرجٍ إن لم يتَّبعُوا رأي فلان أو علان.
لم يكن مالكٌ فقيهاً عادياً بل كان عابِداً عالماً يسوسُ الناسَ بالفقه،ويحصُّ آراءهُ الفقهيةَ بالوعي ومراعاةِ مَصالح المسلمين وواقعهم ولذلك كان نفعه عظيماً في الأمة رحمه الله رحمةً واسعة فذكرته الأمة بالخير ولا زالت.
عباد الله..إن هذا التقدير لعالم مثل الإمام مالك يدلُّنا على أهميةِ توقيرِ العلماءِ وعظمِ مكانتهم في كلِّ زمانٍ وأن يكونُوا المرجعَ للأمةِ في الملماتِ..وهذا ما تنعمُ به بلادُنا هنا ولله الحمد حيث نرى أن رأيَ العلماءِ معتبرٌ ويرجعُ إليهم الناسُ ويقدِّرونَهم..ويخصوْن بالمكانةِ والتقديرِ لدى ولاةِ أمرنا وفقهم الله في اعتمادِ رأيهِم وعدم تجاوزهم وهذا ما ينبغي لنا نحن كذلك..ولذلك أصبح العلماءُ عندنا حِصْناً ضدَّ الفتنِ التي مرَّت بكثيرٍ من الأقطارِ حولنا..وكذا للعلماءِ دورٌ في ردِّ كيد من يريدُ حرْفَ مسيرةِ المجتمعِ برجالهِ ونسائِه وشبابهِ وأطفالهِ وهذا هو الموقفُ الواجبُ على أهل العلم في أن يتخذُوا مكانتَهم اللائقةَ بهم والمهمةَ لحمايةِ أمتهِم وذلكم المنهج هو منهج العلماء الربانيين وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ نسأل الله جلَّ وعلا أن يبارك في العلماء وينفع بهم وينشر علمهم ويثبتهم...أقول ما تسمعون وأستغفر الله .....
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد.. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله 
يقول مطرّف بن عبد الله سمعت مالكاً يخطب مرة فقال:{سن رسول الله وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها اتباع لكتاب الله واستكمال بطاعة الله وقوة على دين الله. ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها. من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاة الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا }وما أجملها من كلمة مانعة شاملة وذلك رأيناه رحمه الله حذراً من أهل البدع والأهواء لايجاملهم بل كان واضحاً في الرد عليهم كما وصفه طلابه
مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يومًا،وبلغ من عمره حين وفاته حوالي تسعين سنة وأقام مُفتياً بالمدينة بين أظهرهم سبعين سنة،رحم الله مالكًا فقد كان يقول:"أدركت ناسًا بالمدينة لم تكن لهم عيوب،فتكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوبًا،وأدركت ناسًا بالمدينة كانت لهم عيوب،فسكتوا عن عيوب الناس فسكت الناس عن عيوبهم".
اللهم لا تؤاخذنا بما نتكلم به،ولا بما نسينا أو أخطأنا ولا تعاملنا بما نحن أهله وعاملنا بما أنت أهله إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة،واعف عنا،واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ..

 0  0  757
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 10:10 مساءً الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025.

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.