الإرهاب ومفهوم الأمن
الخطبة الأولى
الحمد لله أعاد و أبدى ، و أجزل علينا النعم و أسدى ..لا هادي لمن أضلَّ و لا مُضلَّ لمن هدى ، و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله ، أكرمْ به نبياً و أنعم به عبداً ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه كانوا أمثل طريقة و أقوم هدى ، و التابعين و من تبعهم بإحسانٍ و سلم تسليماً ..أما بعد ..فيا عباد الله اتقوا الله تعالى و توبوا إليه ..
عاشت هذه البلاد قبل أكثر من مائة عام صوراً من الخوف و الذعر لم يكن أحدٌ يتصورها من انعدامٍ للأمن ِ و قتلٍ و قطع طريق فتغير كل ذلك بفضل الله لتعيش هذه البلادُ أمناً وارف الظلال متسعَ الأطراف حتى صارت به مثلاً و تلك كانت دعوة أبينا إبراهيم إذ قال :
((رب اجعل هذا البلد آمناً)) ونعمةُ الأمن لا يعد لها شيءً فقد امتنَّ اللهُ بها على ثمود قومِ صالح (( و كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين )) و يوسفُ يخاطبُ أبويه ((و قال ادخلوا مصر إنشاء الله آمنين )) و قال تعالى عن مكة وقريش ((الم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً و يتخطف الناس من حولهم ))تلك نعمة الأمن التي جعلها اللهُ لأهل الجنة فقال ((ادخلوها بسلامٍ آمنين )) و قال (( و هم في الغرفات آمنون))و قال ((إن المتقين في مقامٍ آمين ))و لنعمة الأمن صان الدين الأنفسَ و العقولَ و الأموال و الأعراض و من هنا نستغربُ جميعاً استمرارَ مسلسلِ الإجرام و الإرهاب لفئات لازالت تحاولُ نقضَ عُرى أمن هذه البلاد ..جماعاتٍ ضالةٍ رأينا الإعلان عنها في الأسبوع الماضي و رأينا حجم أسلحتها و خطورة أهدافِها و كلُّ ذلك يصبُّ في صالح أعداء الإسلام و يفقدنا الأمن الذي ننعم به و نقيم الدين من خلاله ..
عباد الله
في ظل الأمن والأمان تحلو العبادة، ويصير النوم سباتاً، والطعام هنيئاً، والشراب مريئاً، الأمن والأمان، هما عماد كل جهد تنموي، وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها.
بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية بالأمن و الإيمان تتوحدُ النفوس و يتعارف الناس و تتلقَّى العلومُ من منابعها الصافية و يزدادُ الحبل الوثيق بين الأمة و علمائها فلا مكان لفتوى متطرفة تُكفُّرُ بلا حق و تُبدعُ بلا دليل ..بالأمن و الإيمان تتوثقُ الروابطُ بين أفراد المجتمع و تتوحد الكلمةُ و يأنسُ الجميع و يلتفوا حولَ ولاةِ أمرهم ليكونوا و إياهم متعاونين على إقامة دين الله و حماية المجتمع من مثل هذه الأفكار ..بالأمن تقامُ الشعائرُ و تقامُ حدود الله و إذا اختل الأمنُ يتبدلُ الحال و ينتشر الفزع و تعاقُ سبلُ الدعوةِ و ينقطع العلم و الأرحام ، و يئن المريض فلا دواء و تهجر الديار و تُفَارق الأوطان و تُنقضُ المواثيق و تبورُ التجارة و تتبدلُ طباعُ الخلق و باختلال الأمن تثقُلُ نفوسٌ بريئة و يفشو الجهل و يشيعُ الظلم و تكثرُ الفتن و تُسلبُ الممتلكات يقول معاوية رضي الله عنه ((إياكم و الفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسدُ المعيشة ، وتكدرُ النعمة ، و تورث الاستئصال )) و هل تريدون مثلاً لكل هذا ؟؟!!انظروا العراق انظروا الصومال كيف كانوا و كيف أصبحوا لتعرفوا نعمة الأمن ..
وقد صح عنه أنه قال: ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)).
ثم إذا أردنا أن نناقش مثل هذه الفئات ماذا يريدون أن يحققوا بأفعالهم هذه و مؤامراتهم على هذه البلاد و أمْنِها ..ماذا ينقمون من هذه البلاد و لو رأوا غيرها من البلدان و رأوا ما فيها من فتنٍ و قلاقل لعلموا فضل هذه البلاد على غيرها ..فشعائر التوحيد ، و مظاهر السنة قائمة ، وعلاماتُ الدينِ ظاهرةٌ ، ماذا ينقمون من هذه البلاد و فيها الحرمين الشريفين و يتوجه إليها المسلمون في صلواتهم و يفدون إليها حاجين و معتمرين ، لا يُرى فيها شركاً ظاهراً أو قبوراً تعُبد .. و لست أدعي هنا الكمال فنحن على قصورٍ و أخطاءٍ يجب أن نتعاون جميعاً شعبا و قادة على إصلاحها و تلافيها لكنَّ الخروجَ على الولاةِ و نقضِ البيعة و إثارةِ الفتنةِ و التكفير و التفجير و حمل السلاح مظاهرُ إجراميةُ لا يُرادُ من خلالها إصلاحٌ أو جهادٌ مزعوم ..
إن المزايدةَ على الأمن والأمانِ ببلادنا أو في مجتمعات المسلمين بعامة كما رأيناه في مصر و أخيراً في الجزائر و المغرب ، لهو مدعاة للسخرية والفوضى، المفرزين للممارسات الشاذة والإخلال المرفوض بداهة، والمهدد لسفينة الأمان الماخرة، كلُّ ذلك غيرُ مستساغٍ شرعاً ولا عقلاً، ولا قبول له تحت أي مبرر كان.
بل كلُّ مزايدةٍ في اختلال الأمن والأمان، إنما هو من نسيج الأعداء المتربصين بنا، وإن استعملوا في نفاذ اختلاله، اللهازم من أبناء أمتنا وأغرارهم؛ من أجل سلب أمن الأمة المسلمة ومقدراتها بكل ما تعنيه الكلمة.
إن المرءَ المسلمَ في فسحةٍ من دينه، عن أن يَزُجَّ بنفسه في مهاوي الرذيلة ومحالِّ الريب.
ومُزعزعُ الأمنِ ومُخلخلُه إنما هو بادي الرأي يُزعزعُ أمنَ نفسه ووالديه وبقيةِ أسرته، قبل أن يزعزعَ أمنَ غيرهِ من الناس و واقعهم شاهد نسأل الله أن يهديهم و يردَّهم إلى الحق ..
كلُّ هذا يبدو واضحاً جلياً، في مثلِ كأسِ خمرٍ، أو قتلِ نفسٍ، أو جرعةِ مُخَدر، أو هتكِ عرض، أو إحلالِ فسادٍ بين الخلق، بِمِثلِ ذلك ينسلخُ من يمارس مثل هذه الأمور عن إنسانيته و إسلاميته، ويتقمص شخصيةَ الإجرامِ والفتك، والفاحشةِ والإضلال بالمسلمين؛ فيشُلُّ الحياةَ، ويهدِمُ صرْحَ الأمةِ، ويوقع مجتمعه وبني ملتِه في وهدةِ الذُّلِ والدمار؛ فيُخلُّ بالأمن ويروعُ المجتمع، ويُبَدِدُ أمْنهم شذَر مذر..و هذا ما رأيناه أصاب أمتنا و شعوبنا منذ أن بدأت الأحداث قبل بلادنا و داخل بلادنا باسم جهاد المستعمرين لكنهم بأفعالهم هذه مكنوا للمستعمر أكثر ..
إنه متى امتدَّ شذوُذ المرءِ ليشملَ الآخرين، ويمسَّ أمن أهله ومجتمعه فإنه لا محالة، يُعرِّضُ نفسَه لحتفهِ بالغاً ما بلغ من العنفوان والشجاعة، و إلا لو فكر مُزعزعُ الأمن ملياً في مصير والده ووالدته حينما تأخذهما الحسرات كلَّ مأخذ، وهما اللذان ربياه صغيراً، يتساءلان في دهشة وذهول، أمِن المعقول أين يكونَ من ولدناه تحت ناظرنا مِعَوَل هدمٍ لأمنِ المجتمع وصرحه؟!!نسأل الله أن يجبر مصابهم ..
أما يُفَكرُ مُزعزعُ الأمن في زوجه وأولاده الذين يُخشى عليهم الضياع من بعده والأسى من فقده؟! ألا يشعر بأن زوجه أرملة -ولو كان حياً؟!-.
أو ما يشعر بأن أولاده أيتام ولو كان له عرق ينبض؟!
وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].ثم إننا يجب أن نعلم إخوتي أنَّ رجالَ الأمن يقومون بدورٍ كبير في حماية المجتمع من مفاسد كثيرة و لهم أدوارٌ جبارة لا سيما في مواجهةِ مثل هذه الظاهرة الغريبة على مجتمعنا و كذلك حمايةُ المجتمع ضد من يريدُ الفسادَ الأخلاقي أو الإجرامي فلا بد أن يكون الجميع عوناً لهم في عملهم هذا و منا صحتُّهم و توجيههم عند الخطأ ..أما مزعزعوا الأمن فإنهم من خلال فكرهم يستهدفون هؤلاء مع الأسف بل و يكفرونهم و لا غرابة في ذلك .. فإن في قتل مجرم واحد حياة هنيئة لأمة بأكملها وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ يأُولِي ٱلالْبَـٰبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
ثم أو لا يفكر مزعزع الأمن كيف يحل عليه الضعف محل القوة، والهم من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء؟!
وقديماً قيل: القتلُ أنفى للقتل.
أيها المسلمون: من أجلِ استتبابِ الأمنِ في المجتمعات جاءت الشريعةُ الغراءُ بالعقوبات الصارمة، وحفِظت للأمةِ في قضاياها ما يتعلقُ بالحقِّ العام والحقِّ الخاص.
بل إن من المسلّم في الشريعةِ، قطعُ أبوابِ التهاونِ في تطبيقِها أياً كان هذا التهاون، سواءٌ كان في تنشيطِ الوسطاء في إلغائِها، أو في الاستحياءِ من الوقوع في وصمةِ نقد المجتمعات المتحضرة فٌإقامة حدٍ من حدود الله خيرٌ من أن تمطروا أربعينَ صباحاً كما قال صلى الله عليه و سلم ..
فحفظاً للأمن والأمان؛ غضب النبي على من شفع في حد من حدود الله بعدما بلغ السلطان، وأكد على ذلك بقوله: ((و أيمُ الله، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها)).
وما ذاك أيُّها الناس، إلا من بابِ سدِّ الذريعةِ المفضيةِ إلى التهاونِ بالحدودِ و التعزيرات، أو التقليل من شأنها فلا تهاون أو محسوبية أو مجاملة في إقامة الأمن للناس و المجتمعات و ليس هناك أحدٌ كبير أم صغير ..أميرٌ أو فقيرُ يجامل ُ على حساب الأمن فالأمن كلٌ لا يتجزأ و مسؤوليته علينا جميعاً..
وإنه حين يدب في الأمة داء التسلل الأمني؛ فإن أفرادها بذلك يهيلون التراب على تراث المسلمين، ويقطعون شرايين الحياة عن الأجيال الحاضرة، والآمال المرتقبة.
وهم يخدمون بمثل هذا - عن وعي أو عن غباء الغارة الاستعمارية على ديار المسلمين، من خلال أعمال خرقاء تزيد السقم علة، والطن بلة؛ فيطاح بالمسلمين، وتوصد أبوابهم أمام الحياة الهانئة الآمنة. ومثل هذا ظاهر جلي في طرح الدعوات الصارخة لما يسمى بمبادئ حقوق الإنسان، والتي تجعل من فتح الحريات، وعتق الرغبات من زناً و شذوذ و أسوأ المنكرات، رفضاً باتاً للفطر السليمة، وسبباً مباشراً تدمر به الأخلاق المستقيمة؛ ومن ثم يزعمون أن من خالف ذلك فهو ضد الإنسان والإنسانية، وضد الحقوق الشخصية والرغبات الفردية، وهي في الحقيقة ليست من الإنسانية في شيء، ولا هي من بابتها، فلا تمت لها بخيط رقيق، ولا حبل متين.
بل إن ما يُنمَّقُ حولَ ذلك ويذوقُ مُرّ العاقبة وإن حلا ظاهرُه، وصعُبَ المُرتقى وإن سَهُلَ ترويُجه، وذميمُ الطرح مهما بدت للاهثين دماثته.. و انظروا كسيف تسلَّط الأعداء على أمتنا في السنوات الأخيرة وزاد إجرامهم و ظهرت صفقاتهم جليةً باسم مكافحة الإرهاب الذي اتهموا فيه جميع المسلمين و مؤسساتهم و جمعياتهم و مساجدهم فزاد احتلال البلدان و كثر سجن المسلمين و هم يدعون إقامة حقوق الإنسان ..
لقد سَفَّهَت دعواتُ حقوقِ الإنسانِ أحكامَ الشريعة، فوصفت إقامةَ الحدودِ بالقسوة والحطة والغلظة. دعا أهلُها إلى حفظِ حقوقِ الإنسان فقتلوه من حيثُ أرادوا حِفظَ حقِّه، أخرجوه من القيودِ الشرعية حرصاً عليه، فإذا بهم في نهاية المطاف يدركون أنَّهم إن ما كانوا ينادون إلا بحفظ حقوق الإنسان المجرم، فإلى الله المشتكى.
أيها المسلمون
القاعدةُ المقررة تقول: إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولأجل أن نعرفَ حقيقةَ الأمن وصورتَه فلابد أن تكونَ هذه المعرفةُ متصفةً بالشمولية، وأن لا تكونَ ضيقةَ العطن، مستهجنةَ الطرح، من خلال قصرِ بعض الأفهامِ حقيقةَ الأمن على ناحيةِ حمايةِ المجتمع من الجرائم فحسب، وأن يُقصرَ مفهومُ حمايتهِ على جنابِ الشُرطِ والدورياتِ الأمنية في المجتمعات بعامة. كلا، فالحديثُ عن الأمن ليس مقصوراً على هذا التصور البسيط، إذ الحقيقةُ أشدُّ من ذلك والخطبُ أعظم.
بل إن المواطن نفسه رجلاً كان أو امرأة ينبغي أن يكون رجل أمن، ورجل الأمن ما هو إلا مواطن صِرْف. و لعلنا نكمل في جمعتنا القادمة الحديث عن مفهوم الأمن ومعناه ..
نسأل الله جلّ وعلا أن يحمي بلاد المسلمين من كل تطرف و إرهاب يراد به إثارة الفتن ..اللهم أدم علينا الأمن و الإيمان و السلامة والاطمئنان ((الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ))
بارك الله لي و لكم في الفرقان العظيم و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون...
و اعلموا أنه يجب الحذر من تعميم البيانات الرسمية على تسمية الأشخاص و المؤسسات بغير علم و أن نعلم أن مؤسساتنا الشرعية و مراكز الصيفية و حلقاتنا من أسباب حماية الشباب من مثل هذه الأفكار..الضالة المنحرفة التي لا تنشأُ و يُسوّقُ لها إلا من خلال الكواليس المظلمة في مواقع الانترنت و غيرها أو عبرَ صحبةٍ فاسدةٍ تحملُ مثلَ هذا الفكرِ فلا بدَّ من الحذرِ أيُّها الأولياء من مثل هذه الأمور لأولادكم و إنشاؤهم على العلم الصحيح من منابعه الموثوقة و مراكز الخير و حلقات العلم و حفظ القرآن الكريم التي تشغل فراغهم و توجههم لخدمة مجتمعهم و وطنهم بالنافع المفيد و أن لا نلتفت لبعض التشويه الذي يرد هنا و هناك تحت أي مسمى لهذه الجهات الرسمية و الخيرية الدعوية المحتسبة ..
ثم اعلموا عباد الله أن هذه البلاد محفوظة بحفظ كتاب الله تعالى لها في كشف مخططات الإفساد و الإجرام بكل أنواعه الفكرية و الأخلاقية فعليكم دائماً بالدعاء الصادق بأن يحفظ هذه البلاد و جميع بلاد المسلمين من كلِّ شر و فتنةٍ ..
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً للحكم بشرع الله و الأخذ بسنة رسول الله لنحقق الأمن و الأمان بإذن الله ..
وصلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ..
0
0
729
04-19-1435 07:29 مساءً