خف الله وارْجَهُ لكلِّ عظيمةٍ
ولا تطع النفسَ اللجوجَ فتندَما
وكنْ بينَ هاتين من الخوفِ والرجا
وأَبْشرْ بعفوِ اللهِ إن كنتَ مُسلما
عباد الله..غمرتنا آيةٌ من آيات الله العزيز الحكيم قبل يومين وهي خسوف القمر،وهي من آياتِ اللهِ تعالى،الدالّةِ على عظمتِهِ وجلالهِ وقُدرتِهِ وحِكمَتِهِ ورحمتِهِ،مع زلازل وبراكين وفيضانات تقع هنا وهناك ومن شأن الآيات أنَّها للصالحين رحمةٌ وبرهانٌ،يزدادون بها إيمانًا،وتزدادُ قلوبُهم بها ثباتًا ويقينًا،وتملؤُها خَوفًا من الله عزَّ وجل وطمعًا في رحمته،وهي للكافرين وأهل الغفلة تخويفٌ وإقامةٌ للحجَّة وقطعٌ للمناظرة والمحاجَّة.
إنَّ قيامَ الساعةِ يكونُ بزلزالِ الأرضِ وانتثارِ الكواكبِ وخسوفِ القمرِ وغيرِ ذلكَ من الآياتِ فكانَ من رحمةِ اللهِ تعالى وحكمتِهِ أن يُرسلَ بِالآياتِ الدالَّةِ على قربِ ذلك اليوم وذكرى لأَهل الإيمان،وأمَّا الغافلونَ فمهما مرَّت بهم الآيات فلن يبصروها ولن ينتفعوا بها،فياويحَ مَن مرَّت به هذه الآية فبات في غمرةِ السهو،ولم يفزع كمن فزع إلى الصلاة والذكر.
وقد تجلَّت لنا آيةٌ من آياتِ اللهِ،وإنَّها لحدثٌ عظيمٌ مخيفٌ،فما لنا لا نخشع؟!وما بالُ أقوامٍ إلى الدعاءِ والصلاةِ لا تفزع؟إنها مأساة أن ترى مئات الآلاف من الناس يتابعون كرة رياضية في الملاعب والبيوت،وبالرغم من تقديم وقتها لاتجد إلا القليل ممن حضر الصلاة فأي إخفاقٍ تربوي نعيشه وغفلة عظيمة لدى شبابنا لمثل هذا الأمر الشرعي وللمشاركة به.
أيها المسلمون..إن هذا الحدثَ الكونيَّ من خسوف القمر أو كسوف الشمس له أَسبَابٌ طَبيعيةٌ يُقرُّ بها المؤمنون والكافرون،وله أَسبابٌ شرعيةٌ يُقرُّ بِها المؤمنونَ وينكرها الكافرون،ويتهاونُ بِها ضعيفوا الإيمانِ من المسلمين ولا يُقيمون لها وزنًا،ولا يقومونُ بِما أَمرهم به رسولُ اللهr.
إِذا حصلَ ذلك ينبغي على المسلم أن يتميَّزَ عن الكافر حال الكُسوفِ أَو الخسوف بأن يفزعَ إِلى الصلاةِ والذِكر والدُعاءِ والاستغفارِ والصدقةِ والعتقِ،كما أمرنا بذلكr.
إِننَا نَحنُ المسلمينَ نُقِرُّ بِأَنَّ لِهَذه الظَواهِر الكونيةِ أَسباباً طبيعية،وأن أَهل الفَلكِ يستطيعونَ مَعرفةَ وُقُوعِه قبلَ زمنهِ عن طريقِ حساباتٍ دقيقةٍ ويُحدَّدُ باليومِ والساعةِ والدقيقةِ،ونُقِرُّ أَيضاً ونَعتقدُ بِأَن لِهَذِهِ الظَواهِر أَسباباً شَرعيةً أَيضاً وهي المهمةُ،وأَنَّهَا اِبتلاءاتٌ يُخَوِّفُ الله بها عبادَه من عَاقِبةِ مايَفعلون،جعلهَا اللهُ أَسباباً لِنستيقظَ مِن غَفلتِنَا،ولِنُحَاسِبَ أَنفسنا،ولنلتفت إلى واقعنا،فَنُحَدِثَ بَعدها توبة، ونُصَحِّحَ ما نحنُ فيه من أخطاء.
إن ذهابَ نورِ الشمسِ والقمرِ كُلَّه أو بعضُه ـ أَيُّهَا الأَحبةُ ـ ما هو إِلا إنذارٌ وتذكيرٌ للعبادِ لِيقُومُوا بِما يَجبُ عَليهم من أوامِر اللهِ،ويبتَعِدُوا عَما حَرم عليهم من نواهي.
فهذا نبيُّ اللهrوهو أَعلمُ النَّاسِ بِربِّه وبِأَحكامِهِ وسُنَّته وآياتِهِ،وهُوَ أَتقى العِبادِ وأَخشَاهُم لله،نَراهُ يَفزعُ عِند آيةِ الخسوفِ،حتَّى إنَّه من شدَّة الفزع والخوف خرج إلى المسجد للصلاة وهو يجرُّ درعًا لبعض أهله،لانشغالِ بَالِه بالتوجهِ إِلى الله في تلك الحال،حتَّى أَدركهُ بَعضُ أَهلِهِ بِردائِه،كما في حديثِ أَسماءَ في الصحيح.
أيُّها الناس..قد وقعَ الخسوفُ كَما تنبَّأ به الفلكيون وكان الأمر كما أخبروا،فَدلَّت هذهِ المطابقةُ اليومَ على صِحَّةِ ما تَوقَّعوهُ بِحسَابَاتِهم الدقيقة،ولكنَّ هذا لا يدلُّ على أنَّهم يصيبون في كلِّ ما يتوقَّعونه من ذلك فبعضهم يغتر بمعرفته الفلكية ويدعوا لعدم التخوف منها ولكنهم لا يخبروننا عن سبب هذا الانحراف وماهي القوة التي زحزحت هذا المخلوق الهائل عن مساره ثم ردّه إلى مداره،وعدم انتظام وقته وحكمة ذلك ومن الذي يضمن رجوعه إنه الله الذي لا إله إلا هو ينذرنا بالآيات.
هذا وإنَّ إنباءَ الفَلكيين بِوُقُوعِ الكُسُوفِ أو الخسوف اليَومَ قبل وقوعهِ بِأَيام أو أكثر قد يكون فتنةً لِكثيرٍ من العوام والجهلة في الغفلة عن الآيات يصدقون المنجِّمين،فيظنُّون صحَّة ما يدَّعونه لصحَّة إخبارهم بأنَّ الكسوف أو الخسوف يكون يوم كذا يقول ابن القيم رحمه الله كثير من المنجِّمين يموِّهون على الجهال بأمر الكسوف أو الخسوف،ويموِّهونَهم أنَّ قضاياهم وأحكامهم النجوميَّة من السعدِ والنحسِ والظفرِ والغلبةِ وغيرِها هي من جنس الحكم بالكسوف أو الخسوف، فيصدِّقُ بذلك الأغمارُ والرعاعُ،ولا يعلمونَ أنَّ الكسُوف يُعلمُ بِحسابِ سيرِ النيِّرين في منازلهما،)ا,ه
وليس بغريبٍ تَأَثُرِ كَثيرٍ من الناسِ اليومَ بالأَبراجِ وطالِعهَا يتفاءَلون بها ويتشاءَمون من قلَّةِ توكُّلِهم باللهِ وضعفِ إِيمانِهم ولا حول ولا قوَّةَ إِلا بالله ومن أعظم الاستهزاء أن يقرن الخسوف بلعبة كرة وأهدافها.
أَيُّهَا الناس..وإِذَا كَان الخسوفُ مَعلومًا وقوعهُ في المستقبل بحسابِ الفلكيينَ ومفسَّرًا سببه الظاهر لديهم بتوسُّط الأرض بين الشمس وبين القمر،كما تحجب السحب عنا الشمس فيغيب ضوؤها فذلك الحساب وتلك الأسباب لا ينافي شيءٌ منها ما أخبر به النبيُّrأنَّ الخسوفَ آيةٌ من آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بِهَا عِباده..قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"العلم بذلك وإن كان ممكناً فإنه لا يترتب عليه علم شرعي،فإنَّ صَلاةَ الكُسُوفِ أو الخسوف لا تُصَلى إِلا إِذَا شَاهَدنَا ذَلك،ومن نَوى أَن يُصلِّيَ الكُسوفَ أو الخسوفَ عِند وقوعه واستعدَّ ذَلك الوقت لرؤيةِ ذلكَ كان هذا حثاً من بابِ المسارعةِ إِلى طَاعةِ الله تعالى وعبادته"ثم قال رحمه الله:"وفي رواية في الصحيح

فالواجبُ عندَ حدوثِ الخسوفِ هُوَ الاشتغالُ عَنهُ بِالصلاةِ والذِكرِ والدُعاءِ والصَدقَةِ،وليسَ بِالنظرِ إليهِ،فَهذا شأنُ الذينَ آمنوا واتَّقوا،وأمَّا الغافلونَ والجاهلونَ فهم ينشغلونَ عن الصلاةِ والصدقةِ والذكرِ بالنظرِ إِلى الخسوفِ والبَحثِ في شِأَنه.وكَذلكَ يَكونُ أَمرهُم عِند كُلِّ آيةٍ تَحدثُ،وعِند خروجِ الدجال،وعِندَ ظُهُور الآياتِ الكُبرى المنذرةِ بقيامِ السَاعَةِ،وهنا نرى كيف يتباهى الإعلام بمعرفته المسبقة ورصده الفضائي لوقوع هذه الظاهرة وكيف تعامل معها الناس في أقصى الأرض لكن هذه القنوات تغفل عن ذكر عبرها ولا تهتم بما فعله قدوة البشرrحيالها وبماذا خطب أعاذنا الله من الفتن.
عباد الله..وبدلاً من النقاش الذي يحدثه وينشغلون به بعض الناس اليومَ في أسباب الخسوف والكسوف وأبحاث الفلكيين فلنتابع فعل النبيrفي هذه النازلةِ التي وقعت في المدينة حيث انكسفت الشمس في الوقت الذي توفي فيه ولده إبراهيم فبعدما ارتفعت بمقدارِ رمحين أو ثلاثة خرجَ النَّبيُّ rفَزِعَاً إِلى المسجدِ يجر ردائه مستعجلاً،جاءَ في روايةِ مُسلمٍ أَنَّهُ من فَزعهrأَخطأَ،فَخرجَ بِدرعِ بَعضِ نِسَائِهِ حتى أَدركوهُ بِالرداءِ وكان يوماً شديدَ الحرِّ،وأَمرَ مُنادياً أَن يُنَادي:الصَلاةُ جَامعة،فاجتمعُ النَّاسُ في المسجدِ رجالاً ونِسَاءً،فَقَامَ فِيهم النَّبِيُّrوصَفوا خَلفه،فَكَبّر وقَرأَ الفَاتِحَة،ثم قَرأَ بعدها سورةً طويلةً بقدرِ سُورةِ البَقرةِ،يَجهرُ بِقراءته،حتى جعلَ أَصحابَهُ يَخرون من طولِ القيامِ،ثمَ ركع ركوعاً طويلاً جداً،ثم رَفعَ وقالَ:سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد،ثم قرأَ الفَاتِحَةَ وسُورةً طويلةً لكنها أَقصرُ من الأُولى،ثم ركعَ ركوعاً طويلاً دون الأول،ثم رفعَ وقال:سمعَ الله لمن حمده ربنا ولك الحمد،وقَامَ قِياماً طَويلاً نَحو رُكوعهِ ثم سجد سجوداً طويلاً جداً نحوا من ركوعهِ،ثمَّ رَفعَ وَجلسَ جُلُوساً طَويلاً،ثمَّ سَجد سُجوداً طويلاً،ثم قَامَ إِلى الركعةِ الثانيةِ،وسُمِعَ في سجودهrيقول




فيا أيُّها المسلمون..هل تظنون أن فزع النبي r وخروجه إلى المسجد ثم الصلاة ثم بعدها تلك الخطبة وما حصل له فيها من أحوال،هل كل ذلك يكون لأمر عادي؟! لا والله،إنه لا يكون إلا لأمر عظيم مخيف..فعلينا ـ أَيُّهَا المسلمونَ ـ في مثل هذه الأحوال أن نفزع كما فزع نبيناrوأن نَلجأَ إِلى مساجد الله للصلاةِ والدعاءِ والاستغفارِ،وأن نتصدقَ لِندفعَ عَن أَنفسنا البَلاءَ،وقد أَمر النَّبِيُّrبالإِعتاقِ في كسوف الشمس أو خسوف القمر؛ لأن عتق الرقبة فكاك للمعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام بسبب فعل العباد..
أَيُّهَا المسلمون..صلاة الكسوف أو الخسوف سنة مؤكدة،تصلى في أي وقت،وفي أية ساعة من ليل أو نهار،ولم يستثن وقتا من الأوقات؛لأنها صلاة فزع ومدافعة،وليس لها أذان ولا إقامة،بل يستحبّ أن ينادى لها:الصلاة جامعة،والقراءة فيها جهرية سواء كان بالليل أو بالنهار،والسنة أن تصلّى جماعة في الجوامع كما صلاها النبيrوصلى خلفه الرجال والنساء،وتصلى أربع ركوعات وأربع سجدات في ركعتين،ومن فاتته الصلاة مع الجماعة فليقضها على صفتها،ومن دخل مع الإمام قبل الركوع الأول فقد أدرك الركعة،ومن فاته الركوع الأول فقد فاتته الركعة نسأل الله المغفرة والتوبة..
عباد الله..إن ذلك يدعونا لمعرفة سعة رحمة الله بعباده وفضله عليهم،يرسل لنا النذر،ويرينا الآيات التي تصيب غيرنا وقد نجانا منها لعلنا نستيقظ من الغفلة،لعلنا نحاسب أنفسنا على التقصير في جنب الله،لعلنا نصحح واقعنا ونتوب من ذنوبنا،يمهلنا ويذكرنا حتى لا يأخذنا على حين غرة,فإن الذنوب والآثام ظلمات بعضها فوق بعض،بها تزول النعم،وتحل النقم،وتتحول العافية،وبها يستجلب سخط الله فالله يخوفنا عواقب الذنب.فلنخف من الله ولنستحي منه،ولنأخذ أنفسنا بالعزيمة على الرشد والبعد من الغي،ولنصغِ لداعي الله،ولنستمع لكلام الناصحين والواعظين ولنتق الله في السر والعلن،وغاروا ـ عباد الله ـ على حرمات الله،يسلم لكم دينكم وعرضكم،وتأمنوا من عذاب الله ومكره..اللهم هون علينا مصابنا وارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة والغضب والرضا يا أرحم الراحمين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِٱلاْيَـٰتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلاْوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلاْيَـٰتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد..
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واغتنموا أعماركم بالطاعات،وبادروا إلى التوبة من الذنوب والسيئات، توبوا إلى الله ما دامت أبواب التوبة مفتحة، قبل أن يحين إغلاقها،وانتهزوا فرصة اليسار في دار القرار،وبادروا هجوم الآجال،فشمس المنية قد أزف إشراقها وأعدوا ليوم الحساب صواب الجواب،فإنما يحاسب الخليقةَ خَلاّقُها.
عباد الله..لا أضر على العبد من أمرين: غفلته عن ذكر الله، ومخالفته لأمر الله؛فالغفلة تحرم الربح، والمعصية توجب الخسران،الغفلة تغلق أبواب الجنان،والمعصية تفتح أبواب النيران.
وإن من رحمة الله أن ينبه العباد من غفلتهم فيما يرسل من آيات نبهنا الله وإياكم من رقدة الغافلين ورزقنا وإياكم مجاورة الصالحين،ونور بصائرنا جميعاً بما نور به بصائر المؤمنين،وزودنا التقوى فإن العاقبة للمتقين..
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين