الحمد لله الذي حوَّل لعباده من الأموال ما تقوم به مصالح دينهم و دنياهم . و أشهدُ أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له رب العالمين و مولاهم .و أشهد أن محمداً عبده و رسوله أكرم الخلق و أزكاهم .. صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من اهتدى بهداهم و سلم تسليماً كثيراً ..أما بعد..
أيُّها الناسُ اتقوا الله تعالى و اعلموا أنَّ هذه الأموال التي بين أيديكم جعلها الله فتنةً لكم ليتبين المحسنُ من المسيء و المفسدُ من المصلح ، قال تعالى واعلموا أنما أموالُكم و أولادُكم فتنة و أن الله عنده أجرٌ عظيم و قال تعالى وهو الذي جعلكم خلائفَ الأرضِ و رفعَ بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ ليبلوكم أيما آتاكم
ففي هذه الأموال فتنةٌ لكم في تحصيلها ..و فتنةٌ في تحويلها ..و فتنةٌ في إنفاقها ..فأما الفتنةُ في تحصيلها فإن الله تعالى شرع لتحصيلها طُرقاً معينة مبنيةً على العدلِ بين الناس بحيث يكسبُها الإنسان من وجهٍ طيبٍ ليس فيه ظلمٌ و لا عدوان ،فمن الناس من اتقى الله تعالى و أجملَ في طلبها فاكتسبها من طرائق حلال كانت بركةً عليه إذا أنفق ، و مقبولةً منه إذا تصدَّق و أجراً إذا خلَّفها لورثته ، فهو غانمٌ دنيا و أخرى ، و من الناس من لم يتق الله و لم يُجمل في طلبِ المال فصارَ يكسبُه من أيِّ طريقٍ أتيحَ له من حلالٍ أو حرامٍ ، من عدلٍ أو ظلمٍ ، لا يُبالي بما اكتسب ، فالحلالُ عندَه ما حلَّ بيده بأيِّ سبب فهذا قد صار مالهُ و بالاً عليه ، إن أمسكَه لم يُبارك فيه و إن تصدَّق به لم يُقبل منه ، و إن خلَّفه بعده كان زاداً له إلى النار لغيره غُنمه و عليه إثمُه و غُرْمُه، فهذه فتنةُ المال في تحصيله .
و أما فتنةُ المال في تحويله : فمن الناس من كان المالُ أكبَر همِّه ، و شغلَ قلبهِ إن قامَ فهو يُفكِّر فيه و إن قعد فهو يُفكِّرُ فيه ، و إن نامَ كانت أحلامُه فيه ، فالمالُ يملئ قبله و بَصرُ عينيه ، و سمْعَ أذنيه ، و شُغلُ فكرِ يقظةً و مناماً ..
و حتى في العبادة فهو يفكر في ماله و أسهمه في صلاته و في قراءته و في ذكره كأنما خُلق للمال وحدَه ، فهو النَهِمُ الذي لا يشبع ، والمفتونُ الذي لا يُقلع ، و مع هذا الحرصِ الشديد و التعب الشاقِّ فلن يأتيه من الرزقِ إلا ما كُتبَ له ، و لن تموت نفسٌ حتى تستكملَ رزقَها و أجلَها ، و من الناس من عَرَف للمالِ حقَّه و أنزلَه منزلته فلم يكن أكبرَ همِّه و لا مبلغَ علمه و جعل المالَ في يدهِ لا في قلبه فلم يُشغلْه بالرغم من المتاجرة به عن ذكر ربه و لا عن الصلاة و القيام بشرائع الدين و فروضهِ فهو من الذين لا تلهيهم تجارةٌ و لا بيعٌ عن ذكر الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة جعلَ المال وسيلةً يُتوسُل بها إلى فعل الخيرات و نفع القرابات و إعانةِ ذوي الحاجات ، فهو قد استخدمَ المال و لم يستخدمْه المال ، و عبدَ ربه و لم يعبدِ المال قد اكتسبَ المالَ من حلِّه و أنفقه في وجوههِ و سَلِم من آذاه ..
و أما الفتنةُ في إنفاقِ المال :فإن أصحابَ الأموالِ منهم البخيلُ ، الذي منعَ حقَّ الله و حقَّ عبادهِ في مالهِ فلم يؤدِّ زكاةَ مالهِ و لم ينفقّ على من يلزمُه الإنفاقُ عليه من الأهل و القرابات ، و من أصحابِ الأموالِ من هو مُسرفٌ مُفرط يبذرُ مالَه و ينفقُه في غير وجههِ و فيما لا يُحمدُ عليه شرعاً و لا عرفاً فكان من إخوان الشيطان ، ومن الذين ينفقون أموالَهم رئاء الناس و لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر ، و من الذين يَخوَّضون في مالِ الله بغيرِ حقٍّ فتكونُ لهم النارُ يومَ القيامة .كما في الحديث الصحيح فلا ينجو من شرِّ هذا المالِ إلا من اتقى اللهَ في طلبهِ و اتقى الله في إنفاقِه ، الذي كسِبوه من حلِّه و إذا أنفقوا لم يسرِفوا و لم يقتروا ، قد بذلوا الواجبات و كملَّوها بالمستحبات و تحلَّوا بالكرم و السخاء و الجود قد أحبهم الله و أحبهم الناس فهؤلاء هم عباد الرحمن و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما ..
أيها المسلمون :
إنكم لن تبقوا للمال و لن يبقى المال لكم إنما هو عارّية بين أيديكم و أنتم سائرون في طريقكم إلى الآخرة فقد خرجتم إلى الدنيا بلا مال ، و ستخرجون منها بلا مال ، و إنما يتبقى لكم ما عملتم فيه من خيرٍ أو شر ، فلا تشتغلوا بما يفنى عما يبقى و لا تغرنكم الحياة الدنيا .
أيها المسلمون :
قد لعب الشيطانُ بأفكار كثيرٍ من الناس فتجرؤا على أخذ المال من وجوه محرمةٍ و طرقٍ خبيثةٍ فأخذوا الرشوة في وظائفهم و خانوا أماناتهم بشتى الوسائل و غلُّوا الأموال العامة و غشوا في بيعهم و شرائهم و شوهوا التجارة و جعلوا كثيراً من أسواق المسلمين مجالاً للاعتداء و المخادعات و الاحتيال و اصطياد إخوانهم المسلمين الآمنين الذي يحسنون بهم الظن و يعاملونهم باسم الإسلام و الثقة بخبرتهم و في حكم الدين الذي جعل المسلم على المسلم حراماً دمه و ماله و عرضه ..
أيها المسلمون :
لقد تبرأ النبي ممن يغش المسلمين حيث قال من غش فليس منا إن من غش فليس من المسلمين لأن المسلم حقيقة من يُعاملُ إخوانَه بصدقٍ و صراحةٍ كما يُحبُ أن يعاملونه بالصدق و الصراحة فالمؤمن يُحبُّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسهِ فّإذا كان أحدٌ لا يرضى أن يخدعَه الناسُ فكيفَ يخدعُ إخوانه .
أيها المسلمون :
إن الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة و أنتم تعلمون مصيرَ الظلمةِ ، و الظلمُ في الأموال ليس مقصوراً على اغتصابها و سرقتها و قطع الطريق و النهب و السلب ، و التعدي على الأراضي و الممتلكات بل إن من أشد الظلم ما أخذ بطريقِ المعاملات المحرمة و تحت شعارِ البيع و الشراء مما تشوبُه الخديعةُ و الكذبُ و الغشُ و التدليسُ و الأيمانُ الفاجرةُ ، يقول صلى الله عليه و سلم البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا فإن صدَقا و بينا بُورك لهما في بيعهما و إن كذبا و كتما مُحقت بركةُ بيعهما
إن بيعَ المسلمِ لأخيه المسلم يجبُ أن يكونَ على مستوى عالٍ من الصدقِ و الصراحةِ و النزاهةِ لا وكس فيه و لا شطط و لا كذب و لا خديعة ، بيع المسلم للمسلم على ما جاء به الإسلامُ .
و إن من الظلمِ كذلك أن ترى البائع في متجرِه أو محلِّه يبيع كثيراً من الأشياء التي حرمها الله سبحانه و تعالى و ضررها بين عليه و على الناس و مع ذلك لا ينتبه إلى ذلك و لعله غره ربح بسيط يجد عاقبته في أخرته قبل دنياه. اسمعوا يا أصحاب الأموال إلى هذه القصة العظيمة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه و سلم لعلَكم أن تتعظوا بها ..
روى البخاري و مسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول : [إن ثلاثةً من بني إسرائيل أبرص و أقرعَ و أعمى ، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص فقال :- أي شيء أحبُ إليك قال :لون ٌحسن و جلدٌ حسن و يذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال :فمسحه فذهب عنه قذره ، فأعطي لوناً حسناً و جلداً حسناً ..قال أي المال أحب إليك ..قال :الإبل و البقر فأعطي ناقة عشراء و قال له بارك الله لك فيها .قال فأتي إلى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال : شعر حسن و يذهب عني الذي قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه و أعطي شعراً حسناً فقال :أي المال أحب إليك ..قال البقر و الغنم فأعطي بقرة حاملاً قال بارك الله لك فيها .فأتي الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال :أن يرد الله علي بصري فأبصر به الناس فمسحه فرد الله عليه بصره قال فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاةً و الدآ ، فأنتج هذان و ولد هذا فكان لهذا وادٍ من الإبل و لهذا وادٍ من البقر و لهذا وادٍ من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته و هيئته الأولى التي كان عليها فقال رجلٌ مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن و الجلد الحسن و المال بعيراً أتبلغ به في سفري فقال :الحقوقُ كثيرة فقال كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً فأعطاك الله عز وجل المال :فقال إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر ، فقال إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .و أتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد هذا .فقال إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
قال فأتى الأعمى في صورته فقال رجلٌ مسكين و ابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوا والله لا أَجهدُكَ اليوم بشيءٍ أخته لله فقال :أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك و سخط على صاحبيك ))
فتأملوا يا عباد الله ما حصل لهؤلاء الثلاثة من الابتلاء و ما انتهت به قصتهم من حسن العاقبة من اعتراف بنعمة الله عليه و شكرَها و بذل ماله في طاعة الله ، و عقوبة من جحد نعمة الله عليه و كفرها و منع الحق الواجب ..
عباد الله و ينبغي التنبيه إلى أن حديثنا هذا لا يعني عدم السعي إلى طلب الرزق في هذه الحياة بل ينبغي على المؤمن أن لا يركن إلى سؤال الناس و الاستجداء بهم و يكون عاطلاً عالة على أهله و بلاده بل يوفر له تجارة يكفيه رزقه بالحلال في هذه الدنيا "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "
إنما أموالكم و أولادكم فتنة و الله عنده أجرٌ عظيم *فاتقوا الله ما استطعتم و اسمعوا و أطيعوا و أنفقوا خير لأنفسكم و من ويق شح نفسه فأولئك هم المفلحون *إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم و يغفر لكم و الله شكور حليم*عالم الغيب و الشهادةِ العزيزُ الحكيم
بارك الله لي و لكم في الفرقان العظيم و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده ..و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمداً عبده و رسوله ..
بعد ما قلناه في الخطبة الأولى عن الدنيا و ضرورة الانتباه في طلب الرزق فإن من تأمَّل مجتمعنا في الفترة الأخيرة لاسيَما خلال الأسبوعين الأخريين رأى كيف أشغلتهم الدنيا بتجارة السهم و ارتفاعها و انخفاضها حتى تأثر كثير من الناس بها ،و إذا ارتفعت أقبلوا عليها و انشغلوا بها و تساهل بعضهم بأخذ المحرم بها و لا يبالي بما كان رباً صريحاً منها ..و إذا ما نزلت تأثر الناس و ضاقت عليهم أنفسهم و طالبوا كل أحدٍ بالتدخل لإصلاح ما أفسده بعضهم بالتدليس على صغارهم و الجشع من كبارهم و إننا إذا أردنا أن نتحدث عنها فإننا نقول أن تجارة الأسهم بالمبدأ لا بأس بها شرعاً ما دام الإنسان يتحرى فيه القواعد الشرعية و فتاوى العلماء المتخصصين الثقات بها فهي مجالٌ للربح يباركه الله عند التزام القواعد و نبذ المجازفات لكن أغلب الذي حَصل سلبيات سيطرت على الناس في هذا السوق حتى بعض الاقتصاديين فضلاً عن الشرعيين يراها خطأً بيناً و لعلنا نوجزها فيما يلي :
لعل أول ذلك عدم المبالاة بالمحرم من الأسهم للربا أو لنوع التجارة للشركة فلا يبالي بعض الناس بالمتاجرة في هذه الأسهم المحرمة و وجودها أصلاً و المتاجرة بها سبب لمحق البركة لكل تجارة ..و هي سببٌ لاستجلاب لعقوبات من رب العالمين ..
-و من السلبيات أيضاً كثرة الانشغال بتجارة الأسهم و نبذ الأعمال الأخرى و هجرها بل قام بعضهم ببيع شركاته و محلاته التي كانت تجلب الرزق له و الدخول في هذا المجال و هنا خطر كبير بأن تتركز أموال الناس في تجارة واحدة ..
-من السليبات أيضاً التساهل بأخذ الديون أو التسهيلات للمتاجرة بها أو بغيرها و تصبح ذمة الإنسان مشغولة و تغرقه الديون لأجر المتاجرة فإذا ما خسرت تجارته أدرك ذلك..
- من السليبات الواضحة ما يمارسه البعض في سوق الأسهم من غش و تدليس بنشر الأخبار الكاذبة بقصد رفع بعضها و الإفساد على الناس فيها عبر الإشاعات و منتديات الانترنت و هذا لا شك محرم على من فعله أو ساهم بنشره و الترويج له ..
- كذلك من مخاطر الأسهم التركيز عليها و ترك التجارات الأخرى التي لا بد من تنوعها في المجتمع ..
- و من السلبيات أيضاً الطمع الذي يمارسه البعض و عدم القناعة بالربح اليسير من خلالها و كذلك أن يضع الإنسان مدخراته كلِّها في هذه التجارة بل الطامة ..سمعنا عن أناس تساهلوا ببيع منازلهم و سياراتهم للدخول في هذه التجارة التي لا بد فيها من ربحٍ و خسارة فعجب صنيعهم هذا و ولعهم بالدنيا لهذا الحد..و لا بد أن نعلم إخوتي أن جميع أنواع التجارات تحتاج إضافةً إلى تنظيمها و بذل الجهد فيها قبل ذلك إلى التوكل على الله و طلب النفع منه و أن يدفع الضرر و كثرة الاستغفار فإن الاستغفار مجلبة للرزق فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموالٍ و بنين و يجعل لكم جناتٍ و يجعل لكم أنهارا ..... الآية ..
اللهم يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد أغننا بحلالك عن حرامك و بفضلك عمن سواك اللهم ارزقنا الحلال و بارك لنا فيه ، و جنبنا الحرام و باعدنا عنه .
هذا و صلوا و سلموا يا عباد الله على أفضل نبيٍ و أكرم هاد كما أمركم الله بذلك فقال عز من قائلٍ عليماً إن الله و ملائكته يصلون النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليماً اللهم صلي و سلم على نبيا محمد و على آله و صحبه أجمعين ....