• ×

09:58 مساءً , الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025

أبو بكر الصديق

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله رفع قدر أولي الأقدار ، أحمده سبحانه و اشكره على فضله المدرار ، و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له الواحد القهار و أشهد أن محمداً عبده و رسوله المصطفى المختار صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه الطيبين الأطهار من المهاجرين و الأنصار ، و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد
أما بعد، فيا أيها الناس اتقوا الله ـ رحمكم الله ـ. أيها المسلمون، الأمم والشعوب كما تحقق العز والمجد يمسها الضعف والهوان، وتاريخ الإسلام ليس مجرد أحداث مدونة ووقائع مسجلة، ولكنه عقيدة الأمة ودينها ومقياسها وميزانها وعظتها واستكبارها والتاريخ هو الكنز الذي يحفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والتجربة، وهو الذي يمدها ـ بإذن الله ـ بالحكم التي تحتاجها في مسيرة الزمن وتقلّبِ الأحداث. والأمة التي لا تحسن فقه تأريخها، ولا تحفظ حق رجالها أمة ضعيفة هزيلة مضيعة لمعالم طريقها.
أيها الأخوة، نقف اليوم بكم مع رجل لا كالرجال, وفذ لا كالأفذاذ, يكفيه إنه صاحب رسول الله المقدَّم، إنه عظيم القدر رفيع المنزلة إنه كالغيث أينما هل نفع فهو أول من أسلم من الرجال ، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، جَِهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، ولم يقدره قدره بعض أجيالنا ورجالنا ومثقفينا وكتابنا, يعرفون عن مغنية أو مغنًّ أو لا عب رياضي أو ساقط أو ساقطة، أكثر مما يعرفون عن هذا العَلمَ، إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه من وُِزن إيمانه بإيمان الأمة فرجح إيمانه، لم يُؤْثر عنه أنه شرب خمرا قط، ولم يُْؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل بربا قط، ولم يُؤْثر عنه كذب قط إنه الصديق لتصديقه ، إنه العتيق لعتقه من الناس كما أخبر رسول الله إنه الأواب لرأفته، إنه من لا يخفى،فهو أبو بكر الصديق وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه سماه رسول الله الصديق قال ابن عمر [كنا نُخير بين الناس ومن النبي صلى الله عليه و سلم فنختار أبا بكر ثم عمر بن عثمان رضي الله عنهم رواه البخاري ]من الرافضة والباطنية والضلال، نقف بكم اليوم على شيء من خبره وفيض من سيره، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير أمثال هؤلاء، والحال في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، ولنعلم أنه يوم تدارى أمثال هذا الرجل الخليفة الزاهد الصادق ظهر الفساد، وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة، وضيعت الأمانة و لما ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر فبلغ ..ذلك عمر رضي الله عنهم فقال : و الله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر يقصد بها ليلة وقت الهجرة .
روى ابن كثير في سيرته: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (لما اجتمع أصحاب رسول الله ألح أبو بكر على رسول الله في الظهور وعدم الاختفاء، فقال : يا أبا بكر إنا قليل فلم يزل أبو بكر يلح حتى وافقه على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد وقام أبو بكر خطيبا في الناس فكان أول خطيب دعا إلى الله، وثار عليه المشركون وثاروا على المسلمين معه، وضربوا أبا بكر ضربا شديدا حتى أن عتبة بن ربيعة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مخصوفتين، ثم ينزو على بطنه حتى ما يعرف وجهه من أنفه وجاء بنوا تيم قوم أبي بكر وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأرا لأبي بكر، وأبو بكر مغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه، فما تكلم إلا آخر النهار، فماذا قال حين صحا من إغماءته ؟ لقد قال: ما فعل رسول الله ؟ هذا همه الذي يشغله حتى عن نفسه وراحت أمه تلح عليه أن يطعم شيئا وهو يقول: ما فعل رسول الله ، فتقول: والله يا بني ما لي علم بصاحبك، فيقول لها: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، فخرجت إليها: فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، فقالت لها أم جميل: أتحبين أن أذهب معك إلى ابنك، تريد سرية الأمر، فقالت: نعم، فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعا، فقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، فيقول أبو بكر مرددا: ما فعل رسول الله ، فقالت: إنه سالم صالح، فقال: أين هو ؟ فقالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا شرابا، حتى آتي رسول الله ، فانتظروا حتى سكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله ، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قبله وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، ثم قال:يا رسول الله هذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادع الله لها وادعها إلى الله، فدعاها ودعا لها رسول الله ، فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) [1]، وهذا من أعظم البر.. .
هذا موقفه، وهذه تضحيته في سبيل الله، الذي به علا بها شأنه، وارتفعت مكانته، وأبو بكر كان السبب في دخول الكثير في الإسلام منهم ستة من العشرة المبشرين: عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة رضي الله عنهم.
وهو من أعتق أكثر من سبعة من الصحابة من ربقة العبودية، الذين كانوا يعذبون بأشد أنواع العذاب وأقساه، وأنفق في ذلك أربعين ألف دينار، هي كل تجارته، فكان أجود الصحابة قال تعالى ((و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى )) قال ابن الجوزي [ أجمعا على أنه نزلت في أبي بكر يقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر ] فبكى أبو بكر و قال [ و هل أنا و مالي إلا لك يا رسول الله ]
ثم إلى وقفة أخرى مع الصديق حينما أسُري وعرج بالنبي في حادثة ومعجزة غريبة لم يعتدها مشركوا قريش، بل لقد تأثر بعض ضعاف المسلمين وُِفتن بأن كَذَّب بالإسراء والمعراج، وحصوله في ليلة واحدة، فيذهب بعضهم إلى أبي بكر يريدون زعزعة عقيدته وإيمانه، فيخبرونه الخبر فوقف أمامهم ثابتا، وهو يقول: (إن كان قال فقد صدق الآن..) [2]، واستحق أبو بكر أن يلقبه رسول الله بالصديق.و من ولائه للدين و براءته من الكافرين أنه في غزوة بدر قام رضي الله عنه لمبارزة ابنه الكافر يومئذٍ حين شهد الحرب مع المشركين لكن رسول الله استبقاه و هو يقول : متعنا بنفسك يا أبا بكر و لما أسلم ابنه عبد الرحمن بعد ذلك قال لأبيه يا أبت لقد أهدفتَ إلى يومَ بدر فاغرفتُ عنك فقال أبو بكر و لكنك لو هدفت إلى لم أعرف عنك ] أخرجه الحاكم و البيهقي
أما حديثه في الهجرة فهو الحديث الذي لا ينقضي منه العجب، هل أحدثكم عن رغبته الملحة بمرافقة النبي ، وإعداده لهذه الرحلة وتربية أولاده لخدمة الدعوة في هذه الرحلة، أم أحدثكم عن فرحته العارمة حينما أذن الله لنبيه بالهجرة، وصحبته معه حتى أن فرحته هذه أبكته، كما تقول عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري: (ما علمت الرجل يبكي من شدة الفرح إلا يومئذ حينما رأيت أبي يبكي من شدة الفرح) [3]، ترى هل كان فرحه لمرافقة النبي لنزهة صيفية؟، لا إنها رحلة إلى عمق الأخطار، حيث قريش تبذل مائة ناقة لمن يأتي برأس أحدهما، أم أخبركم عن محافظته على النبي في هذه الرحلة كما رواه الحاكم و البيهقي حين كان يمشي أمامه تارة ثم يرجع خلفه ثم يذهب يمينا ثم شمالا، فيسائله رسول الله عن ذلك فيقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إذا تذكرت الرصد تقدمت، وإذا تذكرت الطلب تأخرت، فدعا له النبي بخير وقبل دخول الغار، يدخل أبو بكر ليتفقد الغار من الحشرات الضارة ويسد خروق الغار، بيديه ورجله حفاظا على النبي أثناء وجوده به و يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم لئن كانت فيه ملمة فأن تكون بي دونك يا رسول الله .. [4].
إنها التضحية والفداء في سبيل نماء هذه الدعوة، وظهورها، فبذل أبو بكر والصحابة معه كل قدراتهم في سبيل ذلك فأين نحن من هذا ؟! أين دورنا مع الدعوة إلى الله ؟! أين دفاعنا عن الدعاة والعلماء والذب عن أعراضهم ؟!.
أيها الإخوة المؤمنون، أما وقفتنا التالية مع أبي بكر الصديق y فهي تبين لنا مكانته عند النبي روى البخاري و مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في مرضه [ ادعي لي أبا بكر و أخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمنٍ و يقول قائل أن أولى و يأبى الله و رسوله و المؤمنون إلا أبا بكر ]، أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: (كنت جالسا عند رسول الله ، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى ركبته، فلما رآه قال: أما صاحبكم فقد غامر، أي وقع في هول وخطر، فأقبل حتى سلم على رسول الله ثم قال: يا رسول الله: إنه كان بيني وبين عمر شيء فأسرعت إليه أي أخطأت عليه ثم إني ندمت على ماكان مني فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فتبعته البقيع كله أن يعتذر منه حتى تحرز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله ؛ فيقول : ((يغفر الله لك يا أبا بكر يغفر الله لك يا أبا بكر))، أما عمر فقد ندم حين سأله أن يغفر له فلم يصفح عنه فخرج يبحث عنه، حتى أتى منزل أبي بكر، فسأل هل ثمَّ أبو بكر، فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله فأقبل إلى رسول الله ، حتى إذا سلم فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله إلى عمر ما يكره فجثا أبو بكر على ركبتيه، وقال: يا رسول الله، كنتُ أظلم كنتُ أظلم، فيقول - مبينا مكانة أبي بكر ((إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟! فهل أنتم تاركون لي صاحبي ؟! )) فما أوذي الصديق بعدها أبدا و مرة سأل علي بن طالب في مجلسه أخبروني من أشجع الناس فقالوا : أنت قال أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه و لكن أخبروني من أشجع الناس قالوا لا نعلم قال : أبو بكر إنه لما كان يوم بدر فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحدٌ من المشركين فوا و الله ما دنا منا أحدٌ إلا أبو بكر و لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد أخذته قريش فذا يجبأُه و هذا يتلتلُه و هم يقولون أنت الذي جعل الآلة إلهاً واحدً فوا ولله ما دنا منا أحدٌ إلا أبو بكر يدافع عنه و هو يقول و يلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم رفع عليٍ رضي الله عنه بردةً كانت عليه فبكي حتى اخضلت لحيته ثم قال أنشدكم بالله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر فسكت القوم فقال ألا تجيبونني فوا الله لساعةٌ من أبي بكر خيرٌ من ألف ساعة من مؤمن آل فرعون ذاك رجلٌ يكتم إيمانه و هذا رجلٌ أعلن إيمانه ، و كما قال بكرٌ المزني ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاةٍ و لا صيام و لكن بشيءٍ وقر في قلبه وهو الإيمان ..و قال عنه صلى الله عليه و سلم ((إن أمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر و لكن أخوة الإسلام و مودته و لا يبقى بابٌ في المسجد إلا باب أبي بكر ))متفق عليه [5].
أما بذل الصديق وعطاؤه، فيصفه لنا عمر بن الخطاب فيقول: كما روى الترمذي بسند حسن: (ندب النبي وسلم للصدقةيوم غزوة تبوك ذات يوم فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر ولم أكن أسبقه في شيء طول الدهر، فجئت بنصف مالي فتصدقت به، فقال : ما أبقيت لأهلك، قال عمر: أبقيت لهم مثله، ويأتي أبو بكر بكل ماله لم يبق قليلا ولا كثيرا، فيقول له رسول الله : ما أبقيت لأهلك، قال: أبقيت لهم الله ورسوله !! فيقول عمر: فقلت في نفسي والله لا أسابقك إلى شيء بعد اليوم أبدا) [6].
وروى الإمام أحمد أن النبي قال: ((أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي))، فقال أبو بكر وددت يا رسول الله أني معك حتى أنظر إليه، فقال له عليه الصلاة والسلام: ((أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)) [7].
هذه مواقف أبي بكر، هذه تضحياته، هذا فضله.و مكانته التي وضحها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه البخاري أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه و سلم فكلته في شيء فأمرها أن ترجع إليه فقالت له :أرأيت إن لم أجدك كأنها تريد الموت فقال : إن لم تجديني فأت أبا بكر أما حاله حين ولي الخلافة، حين ولي مقاليد الأمة، فهو الحال الذي يجدر بكل من و لي من أمر المسلمين شيئاً أن يتأمل سيرته في ولا يته وجدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئا أن يتأمل سيرته وحاله في ولايته، أرأيتم خطبته حين تولى فماذا قال؟!
(أيها الناس إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتهما فلا طاعة لي عليكم) [8] إنه دستور أبي بكر في خلافته وولايته، فهل كانت هذه خطبة رنانة، وأقوالا فضفاضة، لا يطبق منها شيء حتى آل أمتنا إلى ما نراه هل كان قوله هذا غشا أو تجارة أو دعوة لانتخابه فقط؟ لا؛ إنه أبو بكر، إنه الصديق.
أول ما عمل أن سير جيش أسامة الذي ندبه النبي فأرهب به الروم والعرب، ثم قام بحرب المرتدين، وما تهاون معهم بل قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه للنبي لقاتلتهم عليه) [9]، حتى أن بعض المؤرخين عدَّ موقفه هذا من أعظم المواقف التي حمت الإسلام من التحريف و تغيير العقيدة كما حصل عند النصارى عند رفع عيسى عليه السلام فغيروا الكثير من شعائر دينهم حتى إن عمر رضي الله عنه كان يعارضه ثم اكتشف بعد ذلك أهمية رأيه و قوته فلما عادوا إلى المدينة كما يروي أبو رجاء العطاردي أن عمر قبل رأس أبي بكر وهو يقول أنا فداء لك لولا أنت لهلكنا ..وروي في السير عن عمر بن الخطاب قال: (كنت أفتقد أبا بكر أيام خلافته ما بين فترة وأخرى، فلحقته يوما فإذا هو بظاهر المدينة أي خارجها قد خرج متسللا يريد ألا يراه أحد ، فأدركته وقد دخل بيتا حقيرا في ضواحي المدينة، فمكث هناك مدة، ثم خرج وعاد إلى المدينة، فقلت لأدخلن هذا البيت فدخلت فإذا امرأة عجوز عمياء، وحولها صبية صغار، فقلت: يرحمك الله يا أمة الله من هذا الرجل الذي خرج منكم الآن؟ فقالت: أنه ليتردد علينا حينا، والله إني لا أعرفه، فقلت: فما يفعل ؟ فقالت: إنه يأتي إلينا فيكنس دارنا، ويطبخ عشاءنا، وينظف قدورنا، ويجلب لنا الماء، ثم يذهب، فبكى عمر حينذاك، وقال: الله أكبر والله لقد أتعبت من بعدك يا أبكر) [10].
إننا إخوة الإيمان، تحت ضغط الحياة المادية نعتبر هذا الكلام نسج خيال، ولكنه الإيمان الذي وقر في قلوب أصحاب النبي فحولوه من أقوال إلى أعمال ومن آيات تتلى وتحفظ إلى أحكام تطبق ويعمل بها إنه أبو بكر رضي الله عنه الذي قال عنه علي رضي الله عنه خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ..و قال عنه أيضاً ألا فنيب القلب هذا قول علي و نحن نسمع اليوم من يدعون أنهم من شيعته و يسبون أبا بكرٍ و الصحابة معه نسأل الله أن يهدي ضالهم و أن يكفي الأمة شرهم ..
هذه جهود أبي بكر في الإسلام وهذا عمله، وهذه ولايته، ولذلك فقد استحق عن جدارة قول النبي فيما رواه الترمذي: ((ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها إلا أبا بكر فإن له عند الله يدا يكافئه بها يوم القيامة )) [11]، وختم حياته أبا بكر عنه بالمسك بأن ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعده فكانت خلافته عزًا وقوة للإسلام، وأوصى أبو بكر في حال موته، فقال: "أما قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهما، ولا دينارا، ولُكْنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي "، فما تَرِكتُه يا ترى؟ ما تركة من كانت ميزانية الأمة تحت يديه ؟ لقد خلف عبدا حبشيا وبعيرا كان يسقي عليه وعباءة لا تساوي خمسة دراهم، فلما بعثوا بها إلى عمر بكى حين رآها حتى سالت دموعه، وقال: (رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده) إنه أبو بكر الذي نرى اليوم مع الأسف كما ذكرنا آنفاً من يدعي نصرة الإسلام و هم ينالون منه و من صاحبه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما .. قال محمد بن الحنيفة قلت لأبي علي بن أبي طالب / أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أبو بكر قلت : ثم من قال عمر و خشيت أن يقول : عثمان فقلت ثم أنت : قال ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين .رواه البخاري و لم يكن هذا الأمر خاصاً بعلي رضي الله عنه بل كان هذا شأن بنيه فلما قدم قومٌ من العراق فجلسوا إلى زين العابدين فذكروا أبا بكر و عمر فسبوهما و شتموا عثمان فسبهم و عنفهم و بين أن منزلتهم من رسول الله صلى الله عليه و سلم عظيمة الشأن رفيعةُ القدر بل طلب منهم محبتهم و تولَّيهم ..
و قال الإمام جعفر الصادق أو لدني أبو بكر مرتين أي من جهة أمه و جدنه و قال لسالم بن أبي حفصة [ يا سالم قولَّهما أي أبو بكر و عمر وابرأ من عدوهم فإنهما كانا إمامي هدى] [12].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
يا سائلي عن مذهبي و عقيدتي رزق الهدى من للهداية يسألُ
اسمع كلام محققٍ في قـــوله لا ينثني عنـــه و لا يتبدل
حب الصاحبة كلهم لي مـذهب و مودة القــربى بها أوسـل
نعم رحم الله أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وسائر صحابة رسول الله لقد ودع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلا للداعية والمجاهد والعابد والزاهد والخليفة والوالي و لذلك فلا غرابة أن تنزل به هذه الآيات .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه و أعدَّ لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم .[يوسف:111]


 0  0  911
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 09:58 مساءً الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025.

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.