• ×

10:27 مساءً , الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025

المستقبل للإصلاح بالإسلام الخطبة الثانية

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
كان رسول الله  يتيما تولاه الله برعايته، وحفظه بعنايته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) [2]، وشبّ رسول الله rوالله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى ما لبث أن صار اسمه في قومه: الصادق الأمين.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم


وبعد ذلك تباعدت الشقة بين النبي r وبين قومه، وأضحى يقلق لما يراهم عليه من الشقاوة والفساد، واشتد هذا القلق، حتى ما عاد يطيق الإقامة بينهم، فأخذ يحث المسير إلى غار حراء يتعبد فيه ويخلو، على بقايا دين إبراهيم عليه السلام، وهو غار لطيف، يقيم فيه شهر رمضان المبارك يطعم فيه من جاءه من المساكين، ويتفكر فيما حوله من مشاهد الكون، وكان اختياره rلهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم، ولا بد لأي روح يراد بها أن تؤثر في واقع حياة البشر فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل حياتهم.
وبعد هذه التهيئة لهذا الأمر العظيم تأذّن الله لهذا النبي الكريم بالرسالة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله r من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاء الملك، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ))، قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ * ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ  [العلق: 1-4]))، فرجع بها رسول الله r يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: ((زملوني زملوني))، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي))؛ فقالت خديجة: كلا والله، ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ـ ابن عم خديجة ـ وكان امرأً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله r خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله r : ((أوَمخرجِيَّ هم؟!)) قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزَّرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. رواه البخاري .
تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف محمد r معرفة اليقين أنه أضحى نبيا لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه هو سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء، جاء جبريل للمرة الثانية بعد انقطاع، قال جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله r يتحدث عن فترة الوحي: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، ففزعت منه حتى هويت على الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زملوني زملوني، فدثروني فأنزل الله عز وجل: }يَا أَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبّرْ *وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ *وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ{ [المدثر: 1-5])) أخرجه البخاري
وهكذا كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذانا للرسول r بإنذار قومه، ونزل القرآن الكريم على النبي r آية آية، وشرع محمد r يكلم الناس في الإسلام ويعرض عليهم الأخذ بهذا الدين الذي أرسله الله به، وسور القرآن الذي نزل بمكة تبين العقائد والأعمال التي كلف الله بها عباده، وأوصى رسوله أن يتعهد قيامها ونماءها، وأخذت الدعاية للإسلام تنتشر في مكة، ومن الطبَعِيّ أن يعرض الرسول r أولا الإسلام على ألْصَقِ الناس به من آل بيته وأصدقائه، آمنت زوجته خديجة ومولاه زيد بن حارثة وابن عمه علي بن أبي طالب وصديقه الحميم أبو بكر الذي نشط في نشر الدعوة، فأدخل في الإسلام أهل ثقته ومودته: عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وبدأ الإسلام غريبا ولكنه سرعان ما انتشر في الفترة السرية للدعوة حتى نزل قول الله تعالى: }وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ * وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ{ [الشعراء: 214-216]، وروى البخاري ومسلم عن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت }وأنذر عشيرتك الأقربين{ صعد النبي r على الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت: }تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ{ [المسد: 1].
وأخذ كفار قريش يهددون أبا طالب ويطالبونه بإيقاف ابن أخيه عما هو ماضٍ فيه، وفكروا في قتله، أتى عتيبه بن أبي لهب يومًا للنبي r وقال: أنا أكفر بـ }وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ{ [النجم: 1] وبالذي }دَنَا فَتَدَلَّىٰ{ [النجم: 8] ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع على وجهه الطاهر، فدعا عليه النبي r وقال: ((اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك)) فخرج عتيبة في نفر من قريش إلى الشام في مكان يقال له الزرقاء فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ. فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ بأرسه فذبحه.فصدع رسول الله rبالدعوة إلى الإسلام، وأنكر على قريش ما تشرك به مع الله، ودعاهم إلى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون، وحدب على رسول الله r عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، فلما رأت قريش أن رسول الله r لم يعبأ بها واستمر في تسفيه آلهتهم ذهبوا إلى عمه أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنا والله لا نصبر على ابن أخيك وقد شتم آباءنا وسفه أحلامنا وعاب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، فبعث أبو طالب إلى رسول الله r فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله r أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، فقال له رسول الله r: ((يا عمّ، والله ولو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته))، ثم استعبر رسول الله r فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، فقال له: قل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء ثم أنشد:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسّد في التراب دفينا
وهكذا بدأت قريش بالترغيب والترهيب، تريد صدّ رسول الله r وصحابته عن هذا الدين، فما فتئت تعذّب صحابته بوسائل تعذيب لم يعهد لها التاريخ مثيلا، فعذب أبو جهل عمار بن ياسر ووالده ياسر ووالدته سمية فقتلهما، وعذب أمية بن خلف بلالا الحبشي، وممن عُذَّب عامر بن فهيرة وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
ثم إن قريشا اشتد أمرهم فأغروا برسول الله سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله r مظهر لأمر الله لا يستخفي به، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فظهر عليهم رسول الله r فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه النبي r ثم مر بهم الثالثة فغمزوه فوقف ثم قال: ((أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح))، فأخذت القوم كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، حتى إن أشدهم أذية له قام يلاطفه، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله r حتى إذا كان من الغد طلع عليهم رسول الله فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله r : ((نعم، أنا الذي أقول ذلك))، قال: فلقد رأيت منهم رجلا أخذ بمجمع ردائه r فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول: ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه
أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمعُ قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم ـ وفي رواية أنه أبو جهل ـ: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام ـ وهي جويرية ـ فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبّهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش))، ثم سمى: ((اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)). قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُتبع أصحاب القليب لعنة)).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمدٌ وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)).
ولقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لقد أُخِفْتُ في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال)) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن غريب, وصححه الألباني.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبوه..) رواه البخاري
واستمر أذى قريش للنبي r حتى قرروا قرارا رهيبا وهو محاصرته عليه الصلاة والسلام ومن تبعه في شعب أبي طالب، وقرروا أن لا يناكحوهم ولا يبيعوهم ولا تأخذهم بهم رأفة، وتحالفوا على هذا القرار، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة، وكان الذي كتبها بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله r فشلت يده، وانحاز بعد ذلك بنو هاشم وبنو المطلب في الشعب إلا أبا لهب، وقطعت عنهم الميرة والمادة، ومنع التجار من مبايعتهم، فجهد القوم حتى أكلوا أوراق الشجر والجلود، وواصلوا الضر والفاقة حتى سمعت أصوات النساء والصبيان يتضاغون جوعا، ولم يكن يصل إليهم شيء إلا سرا يقول سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة: ولقد رأيتني مع رسول الله فخرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع قعقعة شيءٍ تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فرضختها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها ماء، فقويت عليها ثلاثًا. وكان رسول الله r على رغم كل ذلك مستمرا في دعوته إلى الله، ولا سيما أيام الحج حينما كانت القبائل العربية تفد إلى مكة من كلّ صوب، عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله r يعرض نفسه في الموقف، فيقول: ((ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي)) واستمر الحصار في الشعب ثلاث سنوات حتى أنهاه بعض عقلاء قريش، فوجدوا أن الصحيفة التي كتبوها قد أكلتها الأرضة إلا "باسمك اللهم"، كما أخبرهم قبل ذلك رسول الله r
وبعد وفاة أبي طالب عمّ الرسول rوزوجته خديجه عظم الخطب على رسول الله r واغتم وحزن الرسول r فخرج إلى الطائف يطلب النصرة والمنعة ماشيا على قدميه ومعه مولاه زيد بن حارثة، فدعا أشرافهم ورؤساءهم إلى الإسلام، فردوا عليه ذلك، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما تهيأ للخروج بعد عشرة أيام وقفوا له صفين وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه r وحتى اختضب نعلاه بالدم وزيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه ويدافع عنه، فأصابه شجاج في رأسه، واستمر هذا الأذى برسول الله حتى وصل إلى حائط في ضواحي الطائف، فدخل به واحتمى منهم، وقد أثر في نفسه ما لاقاه منهم فقال يدعو ربه: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك))
لا إله إلا الله و أيُّ لجوءٍ أعظم من الالتجاء إلى رب الأرباب و مسبب الأسباب سبحانه و هذا صدق اللجوء و عمق التعلق و التذلل مهما بلغت الأسباب عن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي r هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ((لقيت من قومك ما لقيت, وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت, فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب, فرفعت رأسي, فإذا أنا بسحابة قد أظلتني, فنظرت فإذا فيها جبريل, فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك, وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم, فناداني ملك الجبال, فسلم علي, ثم قال: يا محمد, ذلك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين, وهما جبلا مكة يحيطان بها, قال النبي r بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئًا)) [4].
الله أكبر هكذا كانت إجابة الحليم الحكيم, هكذا كانت إجابة الرؤوف الرحيم بأمته مع كل ما قابله من تكذيب و تعذيب .

ثم قدم عليه الصلاة والسلام مكة ودخلها بجوار المطعم بن عدي حماية له من أهل مكة، وحصل الإسراء والمعراج بعد ذلك للنبي r حيث أسرى برسول الله r بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس, راكبًا على البراق, صحبه جبريل عليه السلام فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا, ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا, فاستفتح له جبريل ففتح له, فرأى هناك آدم أبا البشر, فسلم عليه ورحب به ورأى الأنبياء و حادثهم ثم رفع إلى سدرة المنتهى ثم إلى البيت المعمور ثم عُرج به إلى الجبار جلَّّّ جلاله فدنا منه فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ثم فرضت الصلاة على أمته بعد تخفيفها من خمسين إلى خمس في اليوم و الليلة ثم عاد على مكة و أصبح محدثاً به فكذبته قريش و أول من صدقه الصديق أبو بكر رضي الله عنه
وفي موسم الحج للسنة الثانية عشرة من النبوة اتصل اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج برسول الله r عند العقبة بمنى فبايعوه وهي ما تسمى ببيعة العقبة الأولى.
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله r قال: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تسرقوا ولا تزنوا, ولا تقتلوا أولادكم, ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوني في معروف, فمن وفى منكم فأجره على الله, ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله, فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)) قال: فبايعته, وفي نسخة فبايعناه على ذلك.
وبعد البيعة بعث رسول الله r معهم أول سفير إلى يثرب يدعو الناس ويعلمهم أمر دينهم, وهو مصعب بن عمر العبدري رضي الله عنه, وكان من السابقين إلى الإسلام, ونزل مصعب على أسعد بن زرارة, وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا دارين فقط, وقبل حلول الحج من السنة الثالثة عشرة من النبوة, أي بعد سنة فقط من بيعة العقبة الأولى عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله r بشائر الفوز والقبول.
وفي موسم الحج لهذه السنة قدم من يثرب نحو من ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتان من المسلمين, وقد تساءلوا فيما بينهم وهم لم يزالوا في طريقهم حتى متى نترك رسول الله r يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي r لقاءات أدت إلى الاتفاق أن يجتمعوا في أواسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى.
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا أي من حجاج المشركين حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله r نتسلل تسلل القطا مستخفين, حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة, فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله r ومعه عمه العباس بن عبد المطلب, وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, وتوثق له وكان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم, وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه, فهو في عز من قومه, ومنعة في بلده, وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم, فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه, ومانعوه ممن خالفه, فأنتم وما تحملتم من ذلك, وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت, فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
روى أحمد عن جابر قال: قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم, وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) . وفي رواية ابن إسحاق؛ فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم, والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع أزرنا منه, فبايعنا يا رسول الله, فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابر عن كابر.
قال: فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله r ثم قال: ((بل الدم الدم, والهدم الهدم, أنا منكم وأنتم مني, أحارب من حاربتم, وأسالم من سالمتم))
قال العباس بن عبادة بن نضلة هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس, فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة, وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن, فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه, فهو والله خير الدنيا والآخرة, قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف, فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: ((الجنة)), قالوا: ابسط يدك, فبسط يده فبايعوه".
قال جابر: فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة, أما المرأتان فكانت بيعتهما قولاً, ما صافح رسول الله r امرأة أجنبية قط .
[1] رواه البخاري ح (3892).
[2] رواه أحمد ح (14047).
[3] رواه أحمد ح (1537) وابن إسحاق (2/442).
[4] رواه ابن إسحاق (2/446)






الخطبة الثانية
الحمد لله و حده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده و بعد ..







و اشتد أذى المشركين له وأصحابه حتى أذن رسول الله r لصحابته بالهجرة إلى المدينة هروبا من بطش المشركين وأذاهم، وكل ذلك كان لكي يكتب للدعوة والإسلام الانتشار في الأرض عن طريق ذلك البلد الذي آمن أهله وصدقوا برسول الله r وتجرأت قريش بعد ذلك على فكرة قتل النبي r فأتتهم فكرة أن يأخذوا من كل قبيلة شابا من أنشط شبابها، فيجتمعون حول بيت رسول الله r فإذا خرج ضربوه بالسيف ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فبينما هم يمكرون أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة قضاها في مكة مهبط الوحي بصنوف الأذى والعذاب، ولكن الله الذي أنزل هذه الرسالة حماها وتكفل بها وهاجر رسول الله r إلى المدينة حتى وصلها منصورا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم } وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ{ [الأنفال: 20].

و صلوا و سلموا يا عباد الله على خير خلق الله نبينا محمد عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم

 0  0  642
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 10:27 مساءً الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025.

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.