- الرئيسية
- الخطب النصية
-
خطب عام 1434هـ
-
فتح مكة
فتح مكة
الحمدُ للهِ وحده أَحمدهُ سُبْحَانَهُ وَأَشكُرُهُ وأتوب إليه وأستغفره،وَأَشهدُ أَلا إِله إِلا الله وَحدهُ لا شَريكَ لَهُ،وَأَشهدُ أَن سَيّدنَا ونَبِيّنَا مُحَمَداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه صَلِّى الله وَسلَّمَ وبَاركَ عَليهِ وَعَلى آلهِ وَصحبِهِ وسلم تسليماً..أَما بَعدُ فَاتقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ..اللهُم صَلّ وَسلّمْ وَزِد وَبَارِك عَلى عَبْدِكَ وَنَبِيّكَ وَخَلِيلكَ مُحَمدٍ صَفوةِ الرُسلِ أَجمعينَ وَخَاتِم الأَنبِيَاءِ وَالمرسلينَ..
نورٌ من الرحمن أرسلَه هدىً
للناس فازدهرَ الزمانُ وأينعا
دع عنك إيواناً لكسرى عندما
هتفوا بمولده هوى وتصدّعا
واذكره كيف أتى شعوباً فُرِّقَ
أهواؤها كلٌّ يصحِّحُ ما ادّعا
فهداهم للحقِّ حتى أصبحوا
في الله إخواننا تراهم ركعاً
عِبَاد اللهِ..عَودَاً إلى سِيرَةِ الحبِيبِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ التي نَحْتَاجُهَا لِلعِبْرَةِ ونَحفَظُهَا مِن التشويه ونُعَلِّمُهَا لِلأَجْيَال..ونعرف تاريخنا في رمضان..
في السَنَةِ الثَامِنَةِ مِن الهِجرَةِ غَدْرَت بَنُو بَكرٍ بِخُزَاعَةٍ وَوَقَفَت مَعَهُم قُريش في نَقضٍ لِبُنُودِ صُلحِ الحدِيبِيَة المعقودِ في السَنَةِ السَادِسَةِ..فَانطلقَ عَمرو بن سَالمٍ الخُزَاعِي إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ في المدينةِ مُسْتَغِيثًا وَمُسْتَنجِدًا فَقَال له عليه السلام
(نُصرتَ يا عمرو بن سالم)) ثم عرَضَت له سحابةٌُ مِن السماء فقال
(إِنَّ هَذِهِ السحَابةَ لَتَستهلُّ بِنصرِ بَني كعبٍ نُصرَةً للمظلومِ وَوَفَاءً بِالعهدِ))وسَرْعَانَ مَا أَحسَّت قُريشٌ بِخَطَئِهَا وَغَدْرِهَا,فَبَعَثَتْ قَائِدَهَا أَبَا سُفيَانَ لِيُجَدِّدَ الصُلحَ,كما أَخبَر صلى الله عليه وسلم أَصَحَابَه:كَأَنَّكُم بِأَبِي سُفيَانَ قَدْ جَاءَكُم لِيَشُدَّ العَقْدَ وَيَزِيدَ فِي المدةِ,وَدَخلَ أَبُو سُفيَانَ المدِينَةَ حَتَى أَتى رَسُولَ الله صَلى الله عليه وسلّمَ فَكلَّمَهُ فَلم يَردَّ عَليهِ شيء,ثُمَّ ذَهبَ إِلى أَبِي بَكرٍ وعمر وعلي بن أبي طالب لِيُكَلِّموا رَسُولَ اللهِ فأبوا.. حِينَهَا أَظلَمتِ الدُنيا فِي عَينَي أَبِي سُفيانَ,فَعَادَ أَدْرَاجَهُ إِلى مَكَّةَ لَم يُصِبْ مَطْلُوبَهُ,وَبَعدَ ذَلكَ تَجَّهَزَّ صَلّى الله عليه وسلّم وَأَمَرَ الصَحَابَةَ بِالجهَازِ,وأَعلَمَهُم أَنَّهُ سَائِرٌ إِلى مَكةَ,وَقَالَ
(اللَّهم خُذْ العُيُونَ والأَخبَارَ عَن قُريشٍ حَتى نَبْغَتَهَا في بلادِها))وَزِيَادةٌ في الإخفاءِ بعثَ سَرّيَةً بِقِيَادَةِ أَبِي قَتَادَةَ بن ربعي إِلى بَطنِ إِضَمْ فِي أَولِّ شَهرِ رَمضان سَنَةَ ثَمانٍ لِلهجرَةِ,لِيَظُنَ الظَانُّ أَنَّهُ يتوجَّهُ إلى هناك.وَحَاولَ حَاطِبُ بن أَبي بَلتعة رضي الله عنه أَن يُخْبِرَ قُريشَاً بِمَسِيرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا أنَّه عَلِمَ..فَدعَا حَاطِبَاً,فَقَالَ
(مَا هَذَا يَا حَاطِب؟))قَالَ:لا تَعجَل عَليَّ يَا رَسُولَ اللهِ واللهِ إِنَّي لَمُؤْمِنٌ بِاللهِ ورَسُولِهِ,ومَا اِرتددت وَلا بَدلتُ,ولَكِنِّي خفتُ عَلى قَرابتي هُنَاكَ،فَقَالَ عُمر:دعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ,فَإِنِّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ,وَقد نَافَقَ فَقَالَ صَلّى الله عَليهِ وَسلّم
(إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًَا,وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمر لَعَلَّ اللهَ قَد اِطلَعَ عَلَى أَهلِ بَدْرٍ فَقَالَ:اِعْمَلُوا مَا شِئتُم فَقد غَفرتُ لَكم،فَذَرَفَتْ عَينَا عُمر وَقَالَ:الله وَرَسُولُهُ أَعلَم))أَخرجَهُ البُخَارِي..وَهَكَذَا أَخَذَ اللهُ العُيونَ,فَلَم يَبْلُغ إِلى قُريشٍ خَبَرُ خُرُوجِ المسلمينَ إِلَيهِم,وَفي العَاشِرِ مِن شَهَرِ رَمَضَانَ لِلسَنَةِ الثَامِنَةِ مِن الهجرةِ غَادرَ صلى الله عليه وسلم المدينةَ مُتَجِهًا إِلى مَكَةَ,في عَشرَةِ آلافٍ مِن الصَحَابَةِ,ولَمَا كَانَ في الجحفَةِ أَو فَوقَ ذَلِكَ لَقِيَهُ عَمُهُ العَبَاسُ بِن عَبد المطلبِ,وَكَانَ قَد خَرَجَ بِأَهلِهِ وَعِيَالِهِ مُسلِمًا مُهَاجِرًا.
ولقيه بِالأَبواءِ اِبنُ عَمِّهِ أَبُو سُفيَان بِن الحارثِ واِبنُ عَمتِهِ عَبْدُ اللهِ بِن أَبِي أُمَّيَةَ,فَأَعرضَ عَنْهُمَا,لِمَا كَانَ يَلْقَاهُ مِنْهُمَا مِن شِدَّةِ الأَذَى,فَقَالت لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ:لا يَكُن اِبنُ عَمِكَ وَاِبنُ عَمَتِكَ أَشَقَى النَّاسِ بِكَ,وَقَالَ عَليٌّ لأَبِي سُفيَانَ:اِئتِ رَسُولَ اللهِ مِن قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُل لَهُ مَا قَالَ إِخوَةُ يُوسُفَ
(تا الله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين))فَإِنَّهُ لا يَرضَى أَن يَكُونَ أَحدٌ أَحسنَ مِنهُ قَولاً فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفيَان فقالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم((لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)) فأنشده أبو سفيان:
لَعَمرُكَ إِنّي حِينَ أَحمِلُ رَايَةً
لتغلِبَ خيلُ اللاتِ خَيلَ مُحَمد
لكا لمدلجِ الحيرانِ أَظلَم ليلُه
فهذا أواني حين أُهدىَ فَأهتدي
هداني هادٍ غيَر نفسِي ودلَّني
على اللهِ من طرَّدتُه كلَّ مطرَّدِ
فضربَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَقَالَ
(أَنتَ طَردْتَنِي كُلَّ مَطْرَدٍ))-فَأَسلّمَ وَحَسُنَ إِسلامُهُ,ويُقَالُ:إِنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنذَ أَسلَمَ حَيَاءً مِنهُ, وَكَانَ رَسُولُ اللهِ يُحِبُهُ,وَشَهِدَ لَهُ بِالجنَّةِ..وهذا من ثمرة العفو لأنه صلى الله عليه وسلم يرد السيئة بالحسنة،وكان يعفو عمن ظلمه،فهل تخلقنا بأخلاق الحبيب المصطفى أم أننا نأخذ من هديه وسنته ما يتماشى مع هوانا ونترك ما نريد!إن موقف العفو هذا جعل من أبي سفيان بن الحارث من أعظم رجالات الإسلام.
وَواصَلَ رَسُولُ اللهِ سَيرَهُ وَهُوَ صِائِمٌ وَالنَّاسُ صِيَامٌ حَتَى بَلَغَ القديدَ فأفطرُوا,وَأفَطرَ النَّاسُ رخصة ثُمَّ وَاصلَ حَتَى بَلَغَ مُرَّ الظهران،نَزَلَهُ عِشَاءً,فَأَمَرَ الجيشَ,فَأَوقدُوا النَّيرَانَ,فَأُوقِدت عَشرةُ آلافِ نار,وفي الصَبَاحِ مِن يَومِ الثُلاثَاءِ السَابِعِ عَشر من شهرِ رَمَضَانَ غَادرَ عليه الصلاة والسلام إِلى مَكَةَ,وَأَمَرَ العَبَاسَ أَن يَحْبِسَ أَبَا سُفيَان بِن حَرب وَقَد جَاءَ إِلى النَّبي صلى الله عليه وسلم بمضيقِ الوَادِي عِندَ خَطَم الجبل,حتى تمرَّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا,فَفَعل,فمرَّت القِبائلُ عَلى راياتها,كلَّما مرَّت قبيلةٌ قال أبو سفيان:يا عباس مِن هَؤلاء؟فَيقولُ:قبيلة كَذا,فَيقُول:مالي ولَهَا حَتَى نَفِدَت القَبَائِلُ,فَمرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ في كَتِيبَتِهِ الخضراء,فيها المهاجرونَ والأنصار,لا يَرى منهم إلا الحدُقُ من الحديدِ,قال:سبحان الله يَا عَباس,مَنْ هَؤُلاء؟قال:هذا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار,فقال:مَا لأَحدٍ بِهَؤُلاء قَبل وَلا طَاقة,ثُمَّ قَالَ:واللهِ يَا أَبَا الفَضْلِ لَقد أَصبحَ مُلكُ اِبن أَخيّكَ اليَومَ عَظِيمًا,قَالَ العَبَاسُ:يَا أَبا سُفيان,إِنَّهَا النَّبُوَةُ,قَالَ:فَنَعم إِذاً.
ولما مَرَّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سُفْيَانَ قَال لَهُ العَبَاسُ:النجاءَ إِلى قَومِكَ,وأكرمه صلى الله عليه وسلم بأن قال
( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن))فَأَسرَعَ أَبُو سُفيانُ بِنُ حَربٍ حَتى دَخلَ مَكةَ فَصَرخ بِأَعَلى صَوتِهِ,يَا مَعشَرَ قُريشٍ,هَذا مُحَمَدٌ قَدْ جَاءَكُم فِيمَا لا قِبَلَ لَكُم بِهِ,فَمن دَخلَ دَارَ أَبِي سُفيَانَ فَهُوَ آمن،وَمن أَغْلَقَ عَليهِ بَابَهُ فَهُوَ آمنٌ,ومن دَخلَ المسجدَ فَهُوَ آمنٌ,فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلى دُورِهِم وَفِي المسجدِ,وتجمَّعَ بعض فتيان قُريشٍ مع عِكْرِمَةَ بن أبي جهل وصفوانَ بنِ أُميّةَ وَسُهَيلٍ بِنُ عَمروٍ بِالخندمةِ ليُقَاتِلُوا المسلمين, ونزلَ صلى الله عليه وسلم بِذي طِوىَ وَكَانَ يَضَعُ رَأسَهُ تَوَاضُعًا حِينَ رِأى مَا أَكْرّمَهُ اللهُ بِهِ مِن الفَتحِ حَتَى إِنَّ شَعرَ لِحيَتِهِ لَيَكَادُ يَمسُّ وَاسِطَةِ الرَّحلِ,وكان يقرأ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً))وَهُنَاكَ وَزَّع جيشَهُ فَجَعَلَ عَلى الميمنةِ خالد بن الوليد,فَأَمَرَهُ أَن يَدْخُلَ مَكةَ مِن أَسفَلِهَا,ويقاتل من قاومه ويوافونه بالصفا،وَجعل على الميسرة الزبير بن العوام وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يدخل مكة من أعلاها من كداء,وأن يَغْرِزَ رَايَتَهُ بِالحجُونِ,ولا يَبْرَحُ حَتَى يَأتِيَهُ,وَكَانَ أَبُو عُبيدَةَ عَلى الرجالة ولا سِلاحَ لَهُم,فَأَمَرَهُ أَن يَأخذَ بَطنَ الوادي,حَتى ينْصِبَ لِمَكة بين يديه صلى الله عليه وسلم
وتَحرَّكَت كلُّ كَتِيبَةٍ,فَأَمَا خَالد فوجد مقاومَةً يَسِيرةً وهَزَمَهُم،وأَقْبَلَ حَتَى وَافى رسول الله بالصفا.. وأَمَا الزُبير فتقدم حتى نصب رايةَ رسولِ اللهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسَلَّمَ بِالحجونِ عِند مَسجدِ الفَتح,وَضَرَبَ لَهُ هُنَاكَ قِبة,فَلم يَبرح حَتَى جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليهِ وَسلَّمَ ثُمَّ نَهَضَ وَالمهاجرونَ وَالأنصار بَين يَديهِ وَخَلفَهُ وَحَولَهُ,حَتَى دَخل المسجد فَأَقبلَ إِلى الحجرِ الأَسودِ فَاسْتَلَمَهُ,ثُمَّ طَافَ بِالبيتِ وفي يَدِهِ قَوسٌ,وَحول البيت وعليهِ ثَلاثُمِائةٍ وَسِتُونَ صَنَمًا,فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِالقَوسِ وَيَقُولُ
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)) ((قل جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد))والأَصنامُ تَتَسَاقَطُ عَلى وَجْهِهَا وَهِيَ التي كَانت تُعبدُ مِن دُونِ اللهِ قَبلَ ذَلكَ..
بِأَبِي أَنت وَأُمي يَا رَسُولَ الله,ألا كم مِن صَنَمٍ فِي هَذَا الزمَانِ لا يُسْجَدُ لَهُ ولا يُتَمَسَحُ بِهِ,لَكِنَّهُ أَشدُّ عَلى الإِسلامِ مِن أَلفِ صَنَمٍ وَحَجَرٍ.
وَكَانَ طَوَافُهُ عَلى رَاحِلَتِهِ,فَلَمَا أَتَمهُ دَعَا عُثمَانَ بِن طَلحَة مِن بَنِي شَيبَهَ,فَأَخَذَ مِنهُ مِفْتَاحَ الكَعبَةِ,فَأَمَرَ بِهَا فَفُتِحَت فَدَخَلَهَا,وَأَمَرَ بإِخراجِ الصُوَرِ مِنهَا لَمَا رآهَا,وَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إِبراهيم وَإِسماعيل عليهما السلام يَسْتَقْسِمَانِ بِالأَزلام,فَقَالَ:قَاتَلَهُم الله وَاللهِ مَا اِسْتَقَسَمَا بِهَا قط,وَرَأَى فِي الكَعبَةِ حَمَامَةً مِن عِيدانِ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ,وأَمرَ بِالصُور فَمُحِيَت,ثُمَّ أَغلَقَ عَليهِ البَابَ وَمَعَهُ أُسَامَةَ وَبِلال.
وصَلَّى فِي الكَعبَةِ ثُمَّ دَار في البيتِ وَكَبَرَ فِي نَواحِيهِ وَوَحَدَ الله,ثُمَّ فَتَحَ البَابَ كل هذا وَقُريشٌ قَد مَلأَت المسجدَ صُفُوفًا يراقبونه ويَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَصنَعُ فَخطب قائلآ
(لا إِلهَ إِلا الله وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ,صَدَقَ وَعدهُ ونَصرَ عبدهُ,وهَزَمَ الأَحزابَ وَحدهُ,أَلا كُل مَأْثَرةٍ أَو مَالٍ أَو دَمٍ فَهُوَ تَحت قَدمَيَ هَاتينِ إِلا سَدَانَةَ البَيتِ وَسِقَايَةَ الحاجِ,يَا مَعشرَ قُريش إِنَّ الله قَد أَذْهَبَ عَنْكُم نخوة الجاهليةِ وتعظمها بِالآباء,النَّاسُ مِن آدم, وَآدمُ من تراب,((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير))ثم قال
(يا معشر قريش, ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرًا, أخ كريم وابن أخ كريم قال: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته ((لا تثريب عليكم اليوم)) اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ثم قال صلى الله عليه وسلم
(أين عثمان بن طلحة؟))فدعي له فقال له
(هاك مفتاح الكعبة يا عثمان, اليوم يوم بر ووفاء, خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم,يا عثمان:إن الله استأمنكم على بيته, فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف))وحانت الصلاة, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة,بلال الحبشي الذي عُذِّبَ بِمَكَةَ وَوُضِعَ عَليهِ الصَخرُ الحارُ بالظهيرةِ يُعِزهُ الله بِالآذانِ فَوقَ الكَعبةِ..وَأَبُو سُفيان وَعَتَابُ بن أُسيدٍ والحارثُ بن هِشَامٍ جُلوسٌ بِفِنَاءِ الكعبةِ,فَقَالَ عتاب:لَقد أَكرمَ اللهُ أُسيدًا أَن لا يَكونَ سَمِعَ هَذا,فَيسمَعُ مِنهُ مَا يَغِيظُه,فَقَالَ الحارِثُ:أَما وَاللهِ لَو أَعلمُ أَنَّهُ حَقٌ لاتْبَعتهُ,فَقَالَ أَبُو سُفيان بن حرب:أَمَا وَاللهِ لا أَقولُ شَيئًا,لَو تَكَلمتُ لأَخْبَرت عَني هَذهِ الحصَباء,فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم فقال لهم
(قد علمت الذي قلتم)),ثم ذكر لهم ذلك فقال الحارث وعتاب:نشهد أنك رسول الله,والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا, فنقول:أخبرك ولما كان الغد من يوم الفتح قام صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا,فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله, ثم قال: ((أيها الناس,إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض,فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة,فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا أو يعضد بها شجرة,فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم, وإنما حلت لي ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد الغائب))
ولما تم الفتح قالت الأنصار فيما بينها: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح عليه أرضه وبلده أن يقيم بها,وهو يدعو على الصفا رافعًا يديه, فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله, فلم يزل بهم حتى أخبروه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(معاذ الله, المحيا محياكم,والممات مماتكم))ثم أخذ رسول الله البيعة على الرجال بالسمع والطاعة فيما استطاعوا, ثم أخذ البيعة على النساء فقال
(أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا, ولا تسرقن))ولم يصافحهن ثم أقام عليه السلام بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام, ويرشد الناس إلى الهدى والتقى ولم يأخذ عمرة بالحرم في رمضان,وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام,ولكسر الأوثان التي حول مكة, فكسرت كلها,ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره..
هذا هو فتح مكة فتح للأرض بالإسلام وفتح للإنسان بالتوحيد والإيمان ونشرٌ لمبدأ العفو والصفح ونبذُ الثأر والانتقام ولذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً..اللهم انصر الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ..أقول ..
الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد..
أيّها المسلمون،يتفضَّل ربُّنا في ليالي عشر رمضان الأواخر على عبادِه بنفحَاتِ الخيراتِ في لَيالٍ مبارَكة من أفضل ليالي العمر،أبوابُ الجنانِ فيها مفتَّحة،وأبوابُ النّار فيها مُغلَقَة،كان صلى الله عليه وسلم إذا دَخلَت العشر أحيَى ليلَه وأيقَظَ أهلَه وشدَّ مِئزَرَه، ويجتَهِدُ في رَمَضانَ ما لاَ يجتهِد في غيرِه.رواه مسلم.
في العَشرِ ليلةٌ كثيرةُ البرَكات القليلُ منَ العمَلِ فيها كَثير ومضَاعَف((لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ))خَلقٌ عَظيم ينزِل من السماءِ لشُهودِ تلك اللّيلة من بركتها((تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْن رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر))لَيلةُ سلامٍ وبَرَكاتٍ على هذِهِ الأمّة،والعمل فيها بأجر ثلاث وثمانين سنة بإذن الله..فأدركوا بركة العشر ولا تنشغلوا بالبحث أي ليلة هي ليلة القدر فقد حثَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحَابَه على قيامِ اللّيل،والعَبدُ مذمومٌ على تركِه،ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يأمر زوجاته وأهله بالقيام بكل العشر..وفي كلِّ لَيلةٍ ساعةُ إجابَةِ، الأبوابُ فيها تفتَح، والكريم فيها يمنَح،والرقاب من النار تُعتق فسَل فيها ما شئتَ وأيقِن بالإجابةِ فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شَكواك فإنّه الرّحمنُ الرّحيم،يقول عليه الصلاةُ والسلام
(إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه،وذلك كلَّ ليلة)) رواه مسلم.أكثروا في هذه الليالي من الدعاء ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عني))والمحروم من لم يذق حلاوة المناجاة ،ويستكبر عن دعاء مولاه محروم سد على نفسه باب الرحمة،واكتسى بحجب الغفلة..وإن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان.ألم يستعذ صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟فيعقوب عليه السلام فَقَدَ ولده الأول ثم فقد الثاني في مدُدٍ متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقاً
(عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ))ونبي الله زكريا عليه السلام؛ كبر سنه واشتعل بالشيب رأسه ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققاً
(وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً))فلا تستبطئ الإجابة يا عبد الله فربك يحب تضرعك،وصبرك،ورضاك بأقداره،رضاً بلا قنوط،يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان،وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء..قال صلى الله عليه وسلم
(يستجاب لأحدكم ما لم يعجل،يقول:دعوت فلم يستجب لي)).
أيها المسلمون،لياليكم هذه أعظم الليالي فضلاً وأكثرها أجراً،تصفو فيها لذيذ المناجاة،وتسكب فيها غزير العبرات،كم لله فيها من عتيق من النار؟وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته؟المغبون من انصرف عن طاعة الله،والمحروم من حرم رحمة الله،وفات عليه الشهر،وفرط في فضل العشر،وخاب رجاؤه في ليلة القدر،مغبون من لم يرفع يديه بدعوة،ولم تذرف عينه بدمعة،ولم يخشع قلبه لله لحظة والعَبدُ مفتقِرٌ إلى محوِ أدرانِ خطاياه،والانكسارُ بين يدَيِ الله والافتقارُ إليه بالاعتكافِ في بيتٍ من بيوت الله لو ساعة من نهار أو ليل أحرى بمَغفرَة الخطايا وأرجَى لِقَبول العبدِ عِند الله ورِضاه عنه.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام واجعله خالصاً لوجهك الكريم،يا الله لا تجعل حظنا من قيامنا التعب والسهر ولا من صيامنا الجوع والعطش،أمنن علينا بالمغفرة والرحمة والعتق من النار يا عزيز يا غفار،نسألك اللهم في هذه الأيام المباركة أن تنصر إخواننا المسلمين المستضعفين بسوريا وبورما اجبر كسرهم،وتول أمرهم واشف مريضهم،وتقبل شهيدهم،واحم أعراضهم وأطفالهم واشف صدورنا وصدورهم بنصرهم وهلاك طغاتهم من النصيرية الظالمين والبوذيين المعتدين وكلَّ من أذى الإسلام والمسلمين..وامنن على بلادنا وبلاد المسلمين بالأمن والإيمان والسلامة والاطمئنان وهيئ ولاة أمور المسلمين للحكم بشريعتك،والقيام بطاعتك.سبحان ربك...
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
0
0
755
04-12-1435 07:01 مساءً
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 11:14 مساءً الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025.