• ×

09:28 مساءً , الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025

خديجة بنت خويلد

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله على ما منح من النعم ، أحمده سبحانه و أشكره و أتوب إليه و أستغفره و أشهد ألا إله إلا الله و حده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً رسول الله أعظم به رسولاً ، و أكرم به عبداً ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه و التابعين و من تبعهم بإحسان ..أما بعد فاتقوا الله عباد الله
اللهم احشرنا في زمرة نبينا و أكرمنا بشفاعته اللهم لا تفتنا بعده و لا تحرمنا أجره ، و أوردنا حوضه ،و اجعلنا من المتبعين لشرعه ، المقتدين بسنته ، و بخلقه الكريم .

يا خير من جاء الوجود تحية
من مرسلين إلى الهدى بك جاؤا

هـم أدركوا عز النبوة وانتهت
فيهـا اليـك العـزة القـعساء

بك بشر اللـه السماء فزينت
وتضوعت مسكا بـك الغـبراء

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا
منهـا ومـا يتعـشق الكبـراء

زانتك في الخلق العظيم شـمائل
يغـرى بهـن ويـولع الكـرماء


أيها الإخوة
جاهلية عمّ فيها الظلام، فكسى ربوع الكون، بل خالط كل شيء، خالط البيوت وما تحوي، والعقول وما تحمل، بل خالط الدماء والعروق، وأعمى البصر والبصائر..يصنع أحدهم إلهه من تمر فإذا جاع أكله ..فيا عجبًا .. أإله يؤكل !.. وإذا توقف في سفر جاء بأربعة أحجار، ثلاثة لقدره، وواحد يعبده ويؤلهه..يقتل الأخ أخاه، والأب ابنه، وتوأد البنات لأجل حفنة مال، أو قطيع أغنام أو إبل .
من هذه الأجواء المظلمة خرج أصحاب رسول الله و تربوا على يده بهم عرف الحلال من الحرام ، و تميز الحق من الباطل ، فكانوا بحق سراج العباد ، و منار البلاد ، و قوام الأمة ، و ينابيع الحكمة ، لذ واجب علينا جميعاً أن نعرف لهم فضلهم و أن نقف ضد من يشوه صورتهم ، أو يحاول النيل منهم لما حازوه من فضلٍ و إيمان ..
ومن بين بينهم كانت العاقلة الحصينة، النقية الطاهرة، صاحبة المال والتجارة، ترقب مجتمعها علّها تظفر برجل لا كالرجال، يرحل في تجارتها إنها خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية فخر النساء و زوجة رسول رب العالمين فاقت على النساء بأنها أم المؤمنين و هي، أول من تزوج رسول الله و لقد حفظ التأريخ كثيرًا من فضائلها، و لم يستطع حصرها ..كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة ، أوسط نساء قريش نسباً ، و أعظمهم شرفاً ، و أكثرهم مالاً ..و كانت امرأةً حازمة لبيبة شريفة ..لقد كانت رضي الله عنها تعرف محمد بن عبد الله حق المعرفة، فعمته صفية بنت عبد المطلب، زوجة أخيها العوام بن خويلد.
ترامت إليها سيرته العطرة، وأخباره المباركة، حين كان يدعى الصادق الأمين، فأرسلت إليه ليخرج بمالها إلى الشام مع غلامٍ لها يقال له ميسرة، على أن تعطيه أكثر مما تعطي غيره، فوافق وسافر مع غلامها، فعاد وكان الربح وفيرًا.
وقبله كان إعجاب غلامها ميسرة بما قصه عليها من طيب خلقه وصدقه وأمانته أعظم وقعًا في قلبها من نجاح تجارتها وربحها ..فرأت فيه الزوج الذي كانت تطمع فيه منذ زمن، ولم تزل تلك الرغبة تختلج في صدرها حتى صارحت بها صديقتها نفيسة بنت منبه، فخرجت من ساعتها إلى النبي  وكلمته، فقالت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج، فقال: ما بيدي ما أتزوج به ..
قالت: فإن كُفيت ودُعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة .. فهل تجيب؟ فرد متسائلاً: ومن؟ قالت: خديجة بنت خويلد.فقال: إن وافقت.. فقد قبلت.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أعمامه برغبته الزواج من خديجة، فذهب أبو طالب وحمزة فخطبوها له وساقوا إليه الصداق، فكانت الزيجة المباركة ..التي سعدت و فرحت بها ..وكيف لا تفرح وقد حظيت بالصادق الأمين الرحيم زوجًا وشريكًا لحياتها ..و هو ابن خمس و عشرين سنة ..و عمرها أربعون سنة و قد تزوجت قبله برجلين فولدت لرسول الله  ولده كلهم إلا إبراهيم ..و كان أكبر أولاده منها القاسم و به يكنى عليه الصلاة و السلام و عبد الله و يسمى الطاهر الطيب ، و ماتا قبل البعثة ..أما بناته منها فهن رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ثم سيدة نساء العالمين فاطمة ..و كلهن أدركن الإسلام فأسلمن و هاجرن معه ، و لم يتزوج  على خديجة و كانت لا ترد له طلبًا بل تسارع إلى ما يرضيه قبل أن يعرضه.
وفي يوم جلس الزوجان الكريمان قبل بعثة الحبيب ، إذ بمولاة خديجة تخبر أن حليمة السعدية تستأذن بالدخول ..فخفق قلبه الشريف  حنانًا، يتذكر رضاعته و طفولته هناك بين ذراعيها قامت خديجة لتدخل حليمة فطالما سمعت عنها من فم النبي  مدحًا، وحبًا، وحسن وصف ..
وما إن وقع بصره الشريف عليها، حتى امتلكه شعور الحب والوفاء، ولم يستطع فمه أن يعبر عما يخالج صدره، من الرأفة والحنان، إلا بكلمة واحدة تعني كل ما يضمر، قال: ((أمي، أمي))..
سألها عن حالها، فراحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل ببادية بني سعد، ثم شكت ضيق العيش، ومرارة الفقر، فأفاض عليها من كرمه هو و خديجة ..فعادت حليمة إلى باديتها بأربعين رأسًا من الغنم وبعيرًا يحمل الماء، وزاد ترجع به إلى أهلها.
هكذا.. كانت خديجة قبل الإسلام وبعده تبذل مالها إرضاءً لربها وزوجها، وبحثًا عما يحب ، وصلة لمن يحب، ولما رأت حبه لمولاه زيد بن حارثة وهبته إياه..و هكذا ينبغي للزوجة وفاءً لزوجها و حرصاً على محبته و كثيرٌ من نسائنا اليوم و لله الحمد يتصفن بذلك البذل و العطاء للزوج ..و إن كنا نسمع مع الأسف قلة وفاء من بعض الأزواج لزوجته على ما بذلت له من مالها و كرمها ..
عباد الله ..
وكان عليه الصلاة والسلام حببت إليه الخلوة فكان يخلو بغار حراء شهرًا كاملاً من كل سنة يتعبد، ومكث على ذلك الحال ما شاء الله له أن يمكث.
ثم جاءه جبريل عليه السلام بالرسالة من السماء وهو بغار حراء في شهر رمضان، وكان معه ما كان من أمر الوحي، في حديث البخاري ثم انطلق يلتمس بيته في غبش الفجر خائفًا يقول لخديجة : ((زملوني، زملوني، دثروني، دثروني))..
واستوضحت خديجة رضي الله عنها منه الخبر، فقال: ((يا خديجة لقد خشيت و الله على نفسي))، عندها لم تزد خوفه رعبًا، ولا غمه همًا، بل قالت قولتها المشهورة التي تبقى على مر العصور والأيام مثالاً ومنهاجًا لثبات السائرين إلى الله تعالى ..
قالت: ((كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق))
فاطمأن فؤاد الحبيب  وسريَ عنه بهذه الكلمات الحانية، والعبارات الصادقة.
ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فأخبرته الخبر فقال: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى. أخرجاه في الصحيحين..قال ابن إسحاق : وكان  لا يسمع شيئاً يكرهه من ردٍ عليه و تكذيبٍ له فيحزنه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته و تخفف عنه ، و تصدقه و تهون أمر الناس عليه .. ولم تتلكأ خديجة ولم تتأخر في أن تؤمن بوحي الله، وتصدق برسالة رسول الله  فكانت أول المؤمنين لتحوز قصب السبق في الإسلام والتصديق.
قال الإمام البيهقي : أول من أسلم من هذه الأمة خديجة بنت خويلد، وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله إسلامًا بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وبدأت الدعوة إلى الله، وسام المشركون رسول الله ومن معه من المؤمنين أصناف العذاب والتكذيب.
فكانت نعم المرأة صابرة محتسبة، ولهذا وغيره حازت من الفضل ما لم تحزه امرأة غيرها ..
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: ((أتى جبريل عليه السلام النبي  فقال: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدام وطعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني)).زاد الطبراني: قالت خديجة: (هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام).. وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها ..
بل هل سمعتم عن امرأة تسير على الأرض وهي من أهل الجنة.. إنها الصديقة خديجة، جاء جبريل إلى النبي  فقال: ((بشر خديجةَ ببيتٍ في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)).
فرضي الله عنها وأرضاها .. هل كان لأنثى غيرها أن تعين النبي عليه السلام على الدعوة وأن تبذل له نفسها في إيثار نادر وتهيئه لتلقي رسالة السماء؟ كيف استقبلته من غار حراء و صدقته ؟!و أن الله لا يخزيه ..
هل كان في طاقة سيدة غير خديجة، غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانبه في أحلك أوقات المحنة وتعينه على احتمال أفدح ألوان الأذى وصفوف الاضطهاد في سبيل ما تؤمن به من الحق ؟ و قد حفظ لها النبي  خدماتها الجليلة له و لدعوته فكان يذكرها كثيراً بعد موتها و عند زواجه و يبالغ في تعظيمها و الثناء عليها ..
وحوصر المسلمون في شعب أبي طالب، فدخلت الطاهرة المطهرة مع رسول الله والمسلمين الشعب ومضت ثلاث سنوات عجاف على المسلمين ..
كانت أيامهم فيها أيام شدة وضيق، وصبروا صبر الكرام لهذه المحنة العظيمة.. حتى فرّج الله عنهم.
ولكن أُمنا خديجة رضي الله عنها لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج حتى ذبلت ودبَّ الوهن في جسدها
ولبّت نداء ربها راضية مرضية قبل الهجرة بثلاث سنين، ودفنت في جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وأدخلها رسول الله قبرها بيده الشريفة.
قضت خديجة في كنف رسول الله أشق مراحل الدعوة، فكانت في حياتها معه أوفى حياة زوجة لزوجها، وأبر شريكة لشريكها، تشاركه مباهجه ومسراته، تخدمه في بيتها وعقلها وروحها ووجدانها و حزن عليها رسول الله حتى سمي ذلك العام بعام الحزن .
أخرج البخاري ومسلم أن النبي كان يقول: ((خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد)).وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطّ رسول الله  أربع خطوط في الأرض ثم قال: ((هل تعلمون ما هذا، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد))..و من علامات تعظيمه عليه الصلاة و السلام لخديجة أنه كان يمضي عهدها القديم بعد موتها بين نسائه ، و يسير بسيرتها المحمودة في علاقتها مع الأهل و الجيران و كأنها حاضرةً معه ..
أخرجه البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قال : (( استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ..فعرف استئذانها أي شبه صوتها بصوت خديجة فتذكرها فارتاع سروراً بذلك و قال ( اللهم هالة اللهم هالة يهش لها و يفرح بقدومها ))
روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان إذا ذبح الشاة قال: ((أرسلوا إلى أصدقاء خديجة. فذكرت له يومًا، فقال: إني لأحب حبيبها)).
وفي رواية: ((إني رزقت حبها)).
روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي عليه السلام وهو عندي، فقال لها رسول الله : ((من أنت؟))، قالت: أنا جثامة المزنية، قال: ((بل أنت حسّانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدها؟))..قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ..
فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
روى أحمد بسند جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله  إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله تعالى خيرًا منها أي أنها كبيرة السن قالت : فرأيته غضب غضباً شديداً و أسقطت في خلدي و قلت في نفسي : اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء فلما رآني رسول الله فقال: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله تعالى أولادها إذ حرمني أولاد النساء))..قالت فغدا وراح علي بها شهرا.. هذه خديجة، يعلونا الفخر والعز إذ نعلم أنها أمنًا ..اللهم فارض عن خديجة بنت خويلد و أرضها و احشرنا في زمرتها مع أمهاتنا و آبائنا مع النبيين و الصدقيين و الشهداء و الصالحين ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ))..
بارك الله لي و لكم في الفرقان العظيم ..و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده و بعد ..
لقد قام رسول الله  بوفاء خديجة خير قيام لأنها اهتمت به و بدعوته و لم تؤذه و ربت أولاده ، فأصبحت قدوةً عظيمة و مهمة لنسائنا اليوم هي و أمهات المؤمنين و الصحابيات الفاضلات التي صار توليهن و الدفاع عنهن من جملة عقائد الأمة فرضي الله عنهن و أرضاهن .. فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال..لأن هناك من الفرق الضالة و المنحرفة عن سواء السبيل من يحاول تشويه صورتهن و النيل منهن عياذاً بالله ..و كذلك أن نغرس فضائل أمهات المؤمنين في أفئدة نسائنا و بناتنا للاقتداء بهن و معرفة سيرتهن .
فلو كان النساء كمن ذكَرْنا
لفضِّلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال

ستظل المرأة في فهمنا الصحيح مصنع الرجال ..و إعداد القادة ..هن الأمهات ، و الأخوات و الزوجات و البنات ..نحمي حقوقهن و ندافع عمن ظلمهن ..و نحرص على تربيتهن ..كما نحرص على إكرامهن .. اللهم اهدنا جميعاً لأحسن الأخلاق .. و اهد نساء المسلمين ..و ارزقهن الحصن و العفاف و الستر و الحياء و الخلق ، و الوفاء و اجعلهن مربيات فاضلات صالحات و مصلحات ..
و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين ....
حمد الله على الغيث ..

 0  0  798
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 09:28 مساءً الإثنين 5 محرم 1447 / 30 يونيو 2025.

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.