عباد الله..في كل يومٍ نقرأُ في الصحفِ عَن ارتفاعِ نسبةِ الطلاق في مجتمعاتنا المسلمة،بل وصلت نسبة الطلاق في بلادنا إلى ربع عقود الزواج المعقودة سنوياً وفي كل حين تتناهى إلى أسماعنا قصة من قصص الشقاق الأسري والنزاع الزوجي،كثيرًا ما تنتهي بالطلاق أو تفضي إلى أسرة تعيش شقية لتكون مرتعًا خصبًا لناشئة بائسة..ومما نلاحظه مؤخراً ضعف كيان الأسرة ومعانيها التربوية التي تهيئ لنشء صالح يخدم دينه ومجتمعه وبداية الأسرة من الزوجين..وكل من له اتصال بالعاملين في الإصلاح الأسري يسمع ما يشيب له الرأس من الشحناء والبغضاء وفنون الكيد والمكر بين الأزواج صور تتراءى أمام العين،وأصوات مصطخبة ترنّ هنا وهناك،وشعور عميق بالحسرة والألم على واقع أسري مؤلم.ترى أين الخلل؟!وكيف صار من صار إلى هذه النفرة والجفوة المشتتة ؟!والتي لاشك تؤثر على كيان الأسرة ونشأة الأولاد وبناء المجتمع والسبب هو الفهمُ الخاطئ،للحياة الزوجية والتعامل الزوجي،حين لا تفهم المرأة دورها في عش الزوجية،ولا يفهم الرجل دوره أو حين يفهمون دورهم بشكل خاطئ فتحصل النزاعات والشقاقات وإلقاء التهم.
أيها الأحبة..كثير من الرجال يتصور أن علاقته بزوجته علاقة الآمر بالمأمور والسيد بالخادم،ومن ثم فعليه الأمر وعليها الطاعة،وعليه أن يستلقي في الدار أو عند أصحابه وعليها أن تقوم بكل شيء، عليه أن يوفر القوت وعليها أن تدفع ثمن ذلك ذلاً وخضوعًا وانكسارًا.
عبوسُ الوجه وصرامةُ اللفظ والمبالغةُ في الشدةِ،ورفعُ الصوتِ على الزوجةِ والتمادي إلى الضرب هذه الأوصاف في حس البعض هي سمات الزوج الناجح المسيطر على بيته والممسك بزمام الأمور،وصارت الابتسامة والمباسطة والمزاح مدرجة في قائمة المحرمات وكأنها تنازلات وضعف،وصار من أكبر الكبائر عند البعض أن يقول الزوج لزوجه كلمة رقيقة يعبر بها عن محبته وتقديره لها وهناك تربية عظيمة للزوجة والأولاد لا تتم إلا بالحب.
ولما كان الاعتقاد عند البعض بأن المرأة لا تصلح لشيء إلا للاستمتاع والخدمة صارت مشاورتها في شؤون البيت وأخذ رأيها خطيئة كبرى تحطّ من قيمة الزوج وتهز من كبريائه،وصار نزول الرجل عن رأيه من أجل زوجه في عرف هؤلاء شرخًا في الرجولة،لا يمكن أن يلتئم.
وهذه المفاهيم الخاطئة سببٌ في فتور العلاقة بين الزوجين،ونشوء النزاعات والشقاقات ثم التأثير على تربية الأولاد ثم في احتقار دور المرأة المهم في الحياة الزوجية والأسرية وكم نحن محتاجون إخوتي إلى أن نَحْتَكِمْ إلى سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم لنستفيد منه في تعامله مع أزواجه وهو القدوة المهداة..كيف كان عليه الصلاة والسلام في بيته؟وكيف كان يمارس دور الزوجية؟
إن أول ما يلفت النظر في حياته صلى الله عليه وسلم الزوجية أنه كان حريصا على إظهار حبه لزوجاته رضي الله عنهم،كان يُصرح بهذا الحب ويجهر به،وكان يعلمه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.كان يقول عليه الصلاة والسلام عن خديجة




وكانت زوجاته صلى الله عليه وسلم يتسابقن في إظهار حبه لهن،وهو يقرّهن على ذلك ولا ينكر عليهن،فقد قالت عائشة رضي الله عنها:أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير يومي يطلب مني ضجعًا،فدقَّ فسمعت الدق،ثم خرجت،ففتحت له،فقال

وبلغ من إظهاره صلى الله عليه وسلم لحبَّ أزواجه لا سيما عائشة رضي الله عنها أن تعالم الناس بذلك،عن عروة قال:كان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة،فإذا كانت عند أحدهم هديّة يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى يكون صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رواه الشيخان.وعن عمرو بن غالب أن رجلاً نال من عائشة عند عمار بن ياسر فقال:اغرُب مقبوحًا منبوذاً، أتؤذي حبيبة رسول الله؟! أرأيتم؟! فما لأحدنا اليوم يخجل من أن يظهر حبه لأهله ويستحيي من أن يعبر لزوجه عما يكنه لها من مودة ومحبة؟!
لقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو الزوج إلى أن يتلطف مع زوجه بالشكل الذي يشعرها بمحبته ومودته،حتى إنه دعا الزوج إلى أن يضع اللقمة بيده في فم زوجه تحببًا وتوددًا،عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:قال صلى الله عليه وسلم

وإليكم صور زوجية رائعة عن عائشة رضي الله عنها قالت:كان صلى الله عليه وسلم يعطيني العظم فأتعرّقه ـ أي:آكل ما بقي فيه من اللحم وأمصه ـ ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي.رواه مسلم..أيُّ محبة وأي مودة وأي أجواء رائعة كان يضفيها عليه الصلاة والسلام على الحياة الأسرية؟!
وكان عليه الصلاة والسلام يبالغ في التلطف مع أزواجه إذا مرضت إحداهن أو اشتكت،تقول عائشة رضي الله عنها وهي تروي خبر الإفك:فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا،والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك،ولا أشعر بشيء من ذلك،ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي.رواه البخاري.فتأمل أخي قولها اللطف الذي كنت أجده
وكان عليه الصلاة والسلام هيّنًا لينًا مع أزواجه،يحرص على تحقيق ما يرغبنه ويشتهينه إن استطاع من غير إسراف، ولم يكن في ذلك محذور،وإليك هذين المثالين،لترى من خلالهما كيف كان عليه الصلاة والسلام يلين مع أزواجه ويوافقهن فيما يردن ما لم يكن حرجًا:حين حجت عائشة وحاضت لم تتمكن من أداء عمرتها،فلما جاء وقت الحج أمرها صلى الله عليه وسلم أن تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف بالبيت،فلما طهرت وطافت وسعت بين الصفا والمروة حزنت على أن لم تكن اعتمرت كما اعتمر الناس،فقالت:يا رسول الله،أيرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك واحد؟!وفي رواية:أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر؟!فبعث بها مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم،فاعتمرت بعد الحج.رواه مسلم.
فأين هذا ممن يعدّ مجرد موافقة المرأة في رأي سُبَّة وعيبًا وعارًا؟!وبالطبع لا نعني بذلك أن تترك الزوجة أو نساء المنزل يتحكمن فيه بلا حسيب ولا رقيب كما يفعله البعض بترك الحبل على الغالب ولكن المشاركة تبنى على التعاون واحترام كل من الزوجين لرأي الآخر فهكذا تبنى البيوت وتصطلح.
وكان عليه الصلاة والسلام إلى ذلك لا يأنف من أن يقوم ببعض عمل البيت ويساعد أهله،في خدمة البيت ونظافته سئلت عائشة رضي الله عنها:ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـأي:في خدمتهم ـ،فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.رواه البخاري. وفي رواية عند أحمد:كان بشرًا من البشر،يَفْلي ثوبه،ويحلب شاته،ويخدم نفسه.وفي رواية أخرى:كان يخيط ثوبه،ويخصف نعله،ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.صححه الألباني
وكان عليه الصلاة والسلام يستشير أزواجه ويأخذ برأيهن فيما يعرض عليه من أمور،ومن ذلك ما فعله صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل أول مرة، حين رجع فزعًا إلى زوجه خديجة رضي الله عنها،وهو يقول



وكان عليه الصلاة والسلام يصحب زوجاته في السفر،كما صحّ في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه،فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.رواه البخاري ومسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام وهو القدوة المهداة في جميع شؤون الحياة يدرك طبيعة المرأة وأن على الزوج احتمال بعض شغبها وأذاها؛لأنه هو القيم عليها،ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يصبر على زوجاته،وكنّ أحيانا يرفعن أصواتهن فوق صوته ويراجعنه فيما يقرره من قرارات،وربما غاضبته الواحدة منهن فهجرته إلى الليل،فلا يهتاج عليه الصلاة والسلام،ولا يحتدّ،بل يقابل الأمر بسكينة ولطف..عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش من أزواجه يكلمنه عالية أصواتهن على صوته،فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب،فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك،فقال عمر:أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم

وعن عمر رضي الله عنه قال:والله،إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا،حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم،فبينا أنا في أمر أتأمّره إذ قالت امرأتي:لو صنعت كذا وكذا!قال:فقلت لها:ما لك ولما ها هنا؟!وما تكلُّفُك في أمر أريده؟!فقالت:عجبًا لك يا ابن الخطاب!ما تريد أن تُراجَع في أمر، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان،وفي رواية عند البخاري: والله،إن أزواجه صلى الله عليه وسلم ليراجعْنَه،وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل،فقام عمر فأخذ رداءه من مكانه حتى دخل على حفصة فقال لها:يا بنية،إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟!فقالت:والله إنا لنراجعه،فقلت:تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم،قال عمر:ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها،فقالت أم سلمة:عجبًا لك يا ابن الخطاب،دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بينه صلى الله عليه وسلم وأزواجه!والله،إنا لنكلمه فإن تحمّل ذلك فهو أولى به،وإن نهانا عنه كان أطوع عندنا منك.متفق عليه.
وأعجب من كل ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا هو الذي يسترضي زوجه إذا غضبت، ويعتذر لها..روى أبو داود بإسناد قوي عن النعمان بن بشير قال:استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عاليًا،فلما دخل تناولها ليلطمها وقال:ألا أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم!فجعل صلى الله عليه وسلم يحجِزُه أي:منع أبا بكر من أن يزجر ابنته أو يضربها وخرج أبو بكر مغضبًا،فجعل صلى الله عليه وسلم يترضى عائشة ويقول


أيها الأحبة،لقد قال الله سبحانه

نعم أيها الزوجان:
أنتما فِي رحلة العمر معـا
تبنيان العشَّ كالروض الأنيق
قد نَما بينكما عهد الوفـا
صادقا فالعهد في الله وثيـق
تَحملان العبء روحًا ويدًا
والتقى نعم التقى زاد الطريق
نفحة تثمر في النفس الرضا
تَجعل الأيام كالغصن الوريق
فإذا الدنيـا سراج هادئ
والمنى تسبح في بَحر طليـق
عن أنس قال:خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر،فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُحَوِّي لها ـ أي: لصفية ـ وراءه بعباءة،ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته،وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب. رواه البخاري..هذا هو سيد الأمة ونبيّها ومع ذلك يلين ويصبر لأزواجه فاستفيدوا منه.
اللهم وفق الأزواج والزوجات لبناء بيوت صالحات ولتربية ذرية صالحة وللسعادة في الدنيا والآخرة أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد..
عباد الله..إن أحوج ما نكون في هذه العصور المتأخرة إلى معرفة كثيرٍ من المفاهيم الأسرية التي تبنى عليها الأسرة وتستطيع بها النجاح والاستمرار من تعامل بين الأزواج ومع الأولاد ومع الوالدين والأقارب وإن من يتابع أحوال المجتمع يرى كثيراً من القصور في هذه الأمور ونحتاج إلى تكاتف الجميع من أفراد وأسر ودعاة وخطباء وأجهزة للدولة ومدارس تبث التوعية الأسرية وتعالج الخلل الاجتماعي فإذا انهد بناء الأسرة انهد كل شيء ولم تنفع حينذاك التنمية وتصنيع التربية..
نسأل الله أن يوفقنا جميعاً للعمل بشرعة المطهر والالتزام بتعاليم الإسلام وأن يرزقنا المحبة والحنان والتعاطف والبر والإحسان..اللهم يا مجيب الدعاء،ويا سامع النداء،ورافعاً لكل بلاء نسألك أن تكشف الغمة عن إخواننا في بلاد الشام..اللهم عجّل لهم بالفـرج..اللهم وحد كلمتهم..اشدد ازرهم..اللهم تقبل شهداءهم واشفي مرضاهم وارحم موتاهم..اللهم انتقم من بشار وزمرته
اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم ومزقهم كل ممزق وألق الرعب في قلوبهم اللهم لا ترفع لهم راية واجعلهم لمن خلفهم عبرةً وآية يا حي يا قيوم..اللهم كن لإخواننا في بلاد بورما..اللهم كن معهم مؤيداً وظهيرا..ومعيناً نصيراً يارب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.....