يا جاهلين على الهادي ودعوته
هل تجهلون مكان الصادق العلم
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
في الجاهلية والتأديب في اليتم
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
وعلمت أمةً بالفقر نازلة
رعي القياصر بعد الشاء والنعم
نكمل سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه الذي شبّ في مكة والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته،حتى كان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال،صار اسمه الصادقَ الأمين..وبعد هذه التهيئة تأذّن الله له بالرسالة، في البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح،وكان يخلو بغار حراء، فيتعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك،حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاء الملك، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ))، قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ((ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ * ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ ))فرجع بها صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: ((زملوني زملوني))، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيتُ على نفسي))؛ فقالت خديجة: كلا والله، ما يخزيك الله أبدا،إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وكان امرأً تنصّر في الجاهلية،وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة:ماذا ترى؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة:هذا الناموس الذي نزّلَ الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا،ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومُك،فقال عليه الصلاة والسلام



وشرع صلى الله عليه وسلم يكلم الناس في الإسلام ويعرض عليهم الأخذ بهذا الدين الذي أرسله الله به، وسور القرآن الذي نزل بمكة تبين العقائد والأعمال التي كلف الله بها عباده،وأخذت الدعاية للإسلام تنتشر في مكة،فعرض صلى الله عليه وسلم أولا الإسلام على آل بيته وأصدقائه، آمنت زوجته خديجة ومولاه زيد بن حارثة وابن عمه علي بن أبي طالب وصديقه الحميم أبو بكر الذي نشط الدعوة، فأدخل في الإسلام:عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، وبدأ الإسلام غريبا لكنه سرعان ما انتشر في الفترة السرية للدعوة حتى نزل قول الله تعالى: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ*وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ*فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ))في البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت ((وأنذر عشيرتك الأقربين))صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا،فجعل ينادي يا بني فهر،يا بني عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ))وأخذ كفار قريش يهددون أبا طالب ويطالبونه بإيقاف محمداً مهدّدين بقتله،لكنه صلى الله عليه وسلم صدع بالدعوة إلى الإسلام،وأنكر على قريش ما تشرك به مع الله، ودعاهم إلى توحيد الألوهية:"لا إله إلا الله" فهم يؤمنون بالله لكنهم يشركون معه الأصنام لأنها بزعمهم تقربهم إلى الله زلفى،فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله تعالى منهم وهم قليل مستخفون، وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه،فلما رأت قريش أنه لم يعبأ بها واستمر في تسفيه آلهتهم ذهبوا إلى عمه أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنا والله لا نصبر على ابن أخيك وقد شتم آباءنا وسفه أحلامنا وعاب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، فبعث أبو طالب إليه فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظن عليه الصلاة والسلام أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، فقال له

والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسّد في التراب دفينا
ثم بدأت قريش بالترغيب والترهيب، تريد صدّه صلى الله عليه وسلم وصحابته عن هذا الدين، فما فتئت تعذّبهم بوسائل التعذيب كعادة الطغاة،فعذب أبو جهل عمار بن ياسر ووالده ياسر ووالدته سمية فقتلهما، وعذب أمية بن خلف بلالاً الحبشي، وممن عُذَّب عامر بن فهيرة وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
واشتد أمر قريش فأغروا برسول الله سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فظهر عليهم صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم ثم مر بهم الثالثة فغمزوه فوقف ثم قال: ((أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح))، فأخذت القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، حتى إن أشدهم أذية له قام يلاطفه، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف حتى إذا كان من الغد طلع عليهم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا،لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول صلى الله عليه وسلم

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة،وقريش في مجلسهم،إذ قال أبو جهل:أيكم يقوم إلى جزور آل فلان،فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به،ثم إذا سجد وضعه بين كتفيه؟فانبعث أشقاهم،فلما سجد صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه،وثبت عليه الصلاة والسلام ساجدًا لا يرفع رأسه فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك،فانطلق من أخبر فاطمة ـوهي جويريةـ فأقبلت تسعى،ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد حتى ألقته عنه،وأقبلت عليهم تسبّهم،فلما قضى صلى الله عليه وسلم الصلاة،قال



وفي الحديث أن أبا جهلٍ قال:هل يأتيكم محمدٌ بين أظهركم؟قالوا:نعم.فقال:واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته،ولأعفرن وجهه في التراب: فأتى صلى الله عليه وسلم وهو يصلي،فقام أبو جهلٍ ليفعل قال: فما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه،فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة.قال صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا))رواه مسلم وكان صلى الله عليه وسلم يقول



وبعد وفاة أبي طالب عمّه صلى الله عليه وسلم وزوجته المحبوبة الوفية خديجه عظم الخطب واغتم وحزن صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الطائف يطلب النصرة والمنعة ماشيا على قدميه ومعه مولاه زيد بن حارثة، فلم يجبه منهم أحد لكنه لما تهيأ للخروج من مكة بعد عشرة أيام وقفوا له صفين وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه صلى الله عليه وسلم وحتى اختضب نعلاه بالدم وزيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه ويدافع عنه، فأصابه شجاج في رأسه، واستمر هذا الأذى برسول الله حتى وصل ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابنا ربيعة فدخل به واحتمى منهم، وقد أثر في نفسه ما لاقاه منهم فقال يدعو ربه: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين،وأنت ربي،إلى من تكلني؟إلى بعيد يتجهمني،أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي،ولكن عافيتك أوسع لي،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك))لا إله إلا الله و أيُّ لجوءٍ أعظم من الالتجاء إلى رب الأرباب و مسبب الأسباب سبحانه قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم ((هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ((لقيت من قومك ما لقيت, وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت, فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب, فرفعت رأسي, فإذا أنا بسحابة قد أظلتني, فنظرت فإذا فيها جبريل, فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك, وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم, فناداني ملك الجبال, فسلم علي, ثم قال: يا محمد, ذلك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين, وهما جبلا مكة يحيطان بها, قال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئًا))أخرجه البخاري.. ثم قدم عليه الصلاة والسلام مكة ودخلها بجوار المطعم بن عدي حماية له من أهل مكة، وحصل الإسراء والمعراج حينما أسرى به صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس,راكبًا على البراق,صحبه جبريل عليه السلام فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا,ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا,فرأى هناك آدم أبا البشر,فسلم عليه ورحب به ورأى الأنبياء وحادثهم ثم رُفعَ إلى سدرة المنتهى ثم إلى البيت المعمور ثم عُرج به إلى الجبار جلَّّّ جلاله فدنا منه فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ثم فرضت الصلاة بعد تخفيفها من خمسين إلى خمس في اليوم والليلة ثم عاد إلى مكة وأصبح محدثاً به الناس فكذبته قريش وأول من صدَّقه الصديق رضي الله عنه..
وفي موسم الحج للسنة الثانية عشرة من النبوة يقابل صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج عند العقبة بمنى فبايعوه وهي ما تسمى ببيعة العقبة الأولى منهم عبادة بن الصامت قال لهم صلى الله عليه وسلم

وبعد البيعة بعث صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير يدعو الناس ويعلمهم أمر دينهم,وأخذ ينشر الإسلام في أهل يثرب حتى انتشر,وقبل حلول الحج من السنة الثالثة عشرة من النبوة,بعد سنة من بيعة العقبة الأولى عاد مصعب إلى مكة يحمل بشائر الفوز والقبول.معه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من المسلمين,فلما قدموا مكة اجتمعوا في الشعب عند جمرة العقبة,فأتاهم صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب, وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه,فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم,وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه,فهو في عز من قومه, ومنعة في بلده,وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم,فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه,ومانعوه ممن خالفه, فأنتم وما تحملتم من ذلك,وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده..فقالوا يا رسول الله علام نبايعك؟ قال



((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ))أقول ما تسمعون...