أيها الإخوة المؤمنون..محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمةٌ للعالمين،وهدىًّ للمستبصرينَ،ونوراً بَدّدَ ظُلمةَ الفِتَنِ والجاهليات،فأحيا به قُلوباً ميتةً،وأسمعَ بهِ آذاناً صُماً،وأَنَارَ بِهِ أَعْيُنَاً عُمْيَاً،وجعلَ رِسالتَهُ خَاتِمَةً خَالِدَةً،شَامِلَةًَ لِلجميعِ،فَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلغَ الليلُ والنهار،ودخلَ كلَّ بيتِ حجرٍ ومدر..((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ))..
يا خَيرَ مَن جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً
مِن مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جاؤوا
بِكَ بَشَّرَ اللَهُ السَماءَ فَزُيِّنَت
وَتَضَوَّعَت مِسكًا بِكَ الغَبراءُ
فأَعظم وأنعم،وأَجِلَّ بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بَلَّغ الرِسالة وأَدى الأمانةَ ونصحَ الأُمَّةَ،وجَاهد حَقَّ الجهاد،فَأبان الخير كله ودعا إليهِ،وأَبان الشَرَّ كُلَّهُ وحذر منه،وبذل الجهد في هِدايةِ أُمَّتِهِ والأخذِ بَأيديهِم إِلى سُبُلِ الفَوزِ والنَّجَاةِ،وَصَرَفَهُم عن كُلِّ ما تسوؤُهم عاقبتُه..((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))
فالخيرُ كُلُّ الخيرِ في اِتباع سُنَّتِهِ صَلَّى الله عليه وسلم واِقتفَاءِ أَثرهِ،بِمعرفَةِ هديه،وتَعَلّمُ أقوالهِ وأفعالهِ،فَسيرتُه مَعينٌ كُلَّمَا قَلَّبَ المرءُ النَظَرَ فيهَا،وأوعى قَلّبَهُ لَهَا نَالَ مِن مَعاني الإِيمانِ واليقينِ،والبَصِيرةِ والهدى مَا تَستَقِيمُ بِهِ خُطَاهُ،وتَطِيبُ بِهِ الحياة..
يا مَن لَهُ الأَخلاقُ ما تَهوى العُلا
مِنها وَما يَتَعَشَّقُ الكُبَراءُ
لَو لَم تُقِم دينًا لَقامَت وَحدَهـا
دينًا تُضيءُ بِنورِهِ الآناءُ
زانَتكَ في الخُلُقِ العَظيمِ شَمائِلٌ
يُغرى بِهِنَّ وَيولَعُ الكُرَماءُ
أَيُّهَا الأَحبة..اليوم وخلال الجمعتينِ القَادِمَتينِ سَنَتَدَارسُ سِيرته صلّى الله عليه وسلّم لأَنَّهُ لا يكفيهَا القليل،نتحدثُ عن سيرتهِ من حينِ مَولدهِ إِلى أَن أَسلَمَ الروحَ إِلى بَارِيهَا،بَعد أَن أَكملَ الله بهِ الدينَ وأَتمَّ بِهِ النَّعمَة..
عِباد الله..في زمن عجَّت فيه الأرضُ بالفتنِ،واندرست مَعاِلم الرِّسالاتِ،فلم يستمسك بها إلا القليلُ من النَّاسِ،كما جاء في الحديث أن النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال

كان العرب في جاهليةٍ جهلاءَ في الدينِ والعاداتِ،فصرفوا عبادتَهم للأَشجارِ والأَحجارِ،حتى إِنَّهم كانوا يَعبدونَ الحجرَ فَإِذَا وَجَدُوا حَجَراً خَيراً مِنه أَلقوا الأولَ وعبدوا الآخر،وإذا لم يجدوا حجراً جمعوا جَثوَةً مِن تُرابٍ ثُمَّ جَاؤُوا بِالشَاةِ يَحْلِبُونَها عَليه،ثُمَّ يَطُوفُونَ عَليهِ،وأَصبحت كُلُّ قَبيلةٍ تتخذُ صنماً لَها،فكانت الأَصنامُ حولَ البيتِ العَتيقِ ثَلاثِمائةٍ وستين صنماً..
وكانت تحكم علاقاتهم العصبية الممقوتة فتنشأُ الحروبُ بينهم لأدنى سببٍ،وكانت الأمراضُ الجاهليةُ مستشريةً فيهم من وأدٍ للبناتِ وشُربٍ للخمرِ ومَيسرٍ ورِّبَاً وأَنْكِحَةٍ فَاسدةٍ وغيرها..
أَتيتَ والنَّاسُ فَوضَى لا تمرُّ ِبهم
إِلا عَلى صَنمٍ قد هامَ في صنمِ
فعاهلُ الفُرسِ يَطغى في رعيتهِ
وعَاهِلُ الرومِ من كِبرٍ أَصمَّ عمِ
والخلقُ يفتكُ أَقواهُم بِأضعَفِهم
كالليثِ بالبهمِ أو كالحوتِ بالبلمِ
وكان أهلُ مَكةَ هُم أَوسطُ العَربِ ولهم مَكانَةٌ يَحفظهُا لَهم غيرهم..ومع ذلكَ لم تَنجُ مِن تِلكَ الجاهلياتِ وكان عبد المطلب بن هاشم مُسوَّداً في أَهلِ مَكةَ،وَكانت السِقَايَةُ والرِّفَادَةُ صِائِرةٌ إِليهِ بَعد عَمِّهِ..
وكانت عَينُ زَمزم مَدْفُونَةً مِن أَعقابِ جُرهم حِين طَردُوهُم مِن مكةَ،ثُمَّ حَفَرَهَا عبد المطلب وكان اِبنهُ الذي تَزوجَ بِآمِنَةَ بِنت وهبٍ،وَبعد لَيَالٍ مِن الزواجِ ليست طَويلةً سَافر عبدُ الله في رحلةِ قريشٍ إِلى الشَامِ،وفي عَودْتِه أَصابَه مَرضٌ اِضطُرهَ إِلى البَقَاءِ في يثرب عند أَخوالهِ بني النَّجار وما هي إلا أيامٌ وتوفي..بعد أن وضع الأمانة التي في صلبهِ لتحملها آمنة في أعماقها..لتكونَ علامةَ البُشرى لِتبْدِيدِ تِلكَ الظُلماتِ التي غَشِيَت الأَرض وأهلَّهَا..
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال:"قلت يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟قال:دعوة أبي إبراهيم،وبشرى عيسى،ورأت أمي نوراً أضاءت منه قصور الشام))
وكان غزو أبرهة لهدم الكعبة ثُمَّ هَلاك جيشِه وحمايةِ بيتِ اللهِ قَبل مَولدِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بشهرين،فَأصبحت كالتقدمة قَدَّمَها الله لِنبيه وبيته،وبعد أيامٍ من هلاك ذلكم الجيش أشرقت الدنيا وتنادت ربوع الكونِ تَزُف البُشرى وُلدَ سيّدُ المرسلين،وإمامُ المتقين والرحمةُ للعالمين في شعبِ بني هاشم بمكة صبيحةَ يَومِ الإثنينِ التاسع من ربيعٍ الأول لعامِ الفيل،وُلدَ خَيرُ البَشرِ،وسَيّدُ ولدِ آدم،وُلد الرحيم الرفيق بِأُمتِه،أَطَلَّ على هذهِ الحياة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القريشي..
وُلِـدَ الـهُـدى فَالكائِناتُ ضياءُ
وَفَـمُ الـزَمانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الروحُ وَالـمَلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ
لِـلـديـنِ وَالـدُنـيا بِهِ بُشَراءُ
يومٌ يَتِيهُ على الزمان صباحُهُ
ومَساؤُه بِمُحمَّدٍ وضَّاءُ
روى ابن سعد أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:لما ولدتُّه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام،وأرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاء مستبشراً ودخل به الكعبة،ودعا الله وشكر له،واختار له اسم محمد،وهو اسمٌ لم يكن معروفاً في العرب،وختَّنه يوم سابعه كما كانت العرب تفعل،ولد صلى الله عليه وسلم يتيماً حيث توفي والده قبل ولادته وقيل بعدها بشهرين،وكانت العادة عند حاضرة العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم،ابتعاداً عن أمراض الحواضر ولتقوى أجسامهم،وتشتد أعصابهم،ويُتقنوا اللسان العربي في مهدهم،عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال:"لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء بمكة،قالت فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء،ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى في سنة عجفاء،ومعي ابن لي والله ما ينام ليلنا،وما أجد في ثدي شيئاً أعلله به،إلا أنا نرجو الغيث،وكانت لنا غنم،فنحن نرجوها،فلما قدمنا مكة فما بقي منا أحدٌ إلا عُرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكَرِهَتْهُ لأنه يتيم،وإنما يُكرمُ الظئرُ ويحسنُ إليها الوالد،فقلنا:ما عسى أن تصنع بنا أمُّه أو عمه أو جده،فكل صواحبي أخذن رضيعاً،فلما لم أجد غيره رجعت إليه وأخذته،والله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره فقلت لصاحبي:والله لآخذنَّ هذا اليتيم من بني عبد المطلب،فعسى الله أن ينفعنا به،ولا أرجع من بين صواحبي ولا أخذ شيئاً،فقال قد أصبتِ قال:فأخذته،فو الله ما هو إلا أن أتيت به الرِّحل،فأمسيت أقبلَ ثدياي باللبن،حتى أرويته،وأرويت أخاه،وقام أبوه إلى غنمتنا تلك يلمسها فإذا هي حافل،فحلبها فأرواني وروي،فقال:ياحليمة،تعلمين والله لقد أصبنا نسمةً مباركة،ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن.
نِـعْـَم اليَتِيمُ بَـدَتْ مَخَايـلُ فَضْلِـهِ
واليُتمُ رزقٌ بعضُه وذكاءُ
قالت:فبتنا بخير ليلةٍ شباعاً وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا..ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي،فركبت أتاني التي كانت ضعيفة فحملته معي فو الذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى أن النسوة ليقلن:أمسكي علينا أهذه أتانك التي خرجت عليها؟فقلت:نعم،فقالوا:إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟قالت:فقلت:والله حملت عليها غلاماً مباركاً.قالت:فخرجنا،فما زال يزيدنا الله في كلَِّ يوم خيراً حتى قدمنا والبلاد سِنَةٌ،ولقد كان رُعاتنا يسرحون ثم يريحون،فتروح أغنام بن سعد جياعاً،وتروح غنمي شباعاً،بطاناً،حُفَّلاً،فنحتلب ونشرب فيقولون:ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى،وغنم حليمة تروح شباعاً حِفلا،وتروح غنمكم جياعاً؟ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم،فيسرحون معهم،فما تروح إلا جياعاً كما كانت،وترجع غنمي كما كانت.قالت:وكان يشيب شباباً مايُشبه أحداً من الغلمان،يشبُ في اليوم شباب الغلام في الشهر،ويشبُ في الشهر شباب السنة،فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه،فقلنا والله لانفارقه أبداً ونحن نستطيع،فلما أتينا أمه قلنا:أيْ ظئر!والله ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه،وإنا نتخوف عليه وباء مكة وأسقامها،فدعيه نرجع به حتى تبرئ من دائك،فلم نزل بها حتى أذنت،فرجعنا به فأقمنا أشهراً ثلاثة أو أربعة،فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه،إذ أتى أخوه يشتدُّ،فقال:إن أخي القرشي،أتاه رجلان عليهما ثيابٌ بيض فأخذاه واضطجعاه،فشقا بطنه،فخرجت أنا وأبوه يشدُّ فوجدناه قائماً،قد انتقع لونه فلما رآنا أجهش إلينا،وبكى،قالت:فالتزمته أنا وأبوه،فضحكناه إلينا،فقلنا:مالك بأبي أنت؟فقال:أتاني رجلان وأضجعاني فشقا بطني،وصنعا به شيئاً،ثم رداه كما هو،فقال أبوه:والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب،إلحقي بأهله،فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه.قالت فاحتملناه فقدمنا به على أمه،فلما رأتنا أنكرت شأننا وقالت:مارجعكما به قبل أن أسألكماه،وقد كنتما حريصين على حبسه؟فقلنا لا شيء إلا أن قد قضى الله الرضاعة وسرّنا ما نرى وقلنا نؤويه كما تحبون أحبَّ إلينا قال:فقالت:إن لكما شأناً فأخبراني ما هو،فلم تدعنا حتى أخبرناها،فقالت:كلا والله لايصنع الله ذلك به،إن لابني شأناً،أفلا أخبركما خبره،إني حملت به،فو الله ما حملت حملا قط كان أخف علي منه ولا أيسر منه ثم رأيت حين حملته خرج مني نوراً أضاء منه أعناق الإبل ببصري،فو الله ما وقع كما يقع الصبيان لقد وقع متعمداً بيديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء فدعاه عنكما فقبضته وانطلقنا..
وحديث شق الصدر كما في صحيح مسلم"أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معها طست من ذهب مملوء ثلجاً فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء وقال:هذا حظ الشيطان منه فألقياها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى إذا أنقياه رداه كما كان ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني فوزنتهم حتى قال:زنه بألفٍ من أمته فوزنتهم فقال:دعه عنك لو وزنته بأمته لوزنهم"ولقد رأى الصحابة موضع الشق بعد النبوة..اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد..
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ست سنين توفيت أمه،وهي عائدةٌ من زيارة قبر أبيه عبد الله فعاش بعد ذلك في كنف جدِّه عبد المطلب ثم في كنف عمه أبي طالب..
ومن آياته وكراماته ما أخرجه ابن عساكر قال:قدمت مكة وهم في قحط،فقالت قريش يا أبا طالب:أقحط الوادي وأجدب العيال،فهلم فاستق فخرج أبو طالب ومعه غلام،كأنه شمس دجن،تجلت عن سحابة قثماء،حوله الأغيلمة،فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بأصبعه الغلام،وما في السماء قزعة،فأقبل السحاب من هنا وهاهنا،وأغدق واغْدَوْدَق،وانفجر الوادي وأخصب النادي والبادي وإلى هذا أشار أبو طالب بقوله:
وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهِه
ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامل
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجراً إلى الشام حتى وصل إلى بصرى،وكان فيها وهبٌ يقال له بحيراً،فلما نزل الركب،خرج وأكلمهم وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك،وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته فقال وهو آخذ بيده:هذا سيد العالمين،يبعثه الله رحمة للعالمين،فقال أبو طالب:وما علمك بذلك فقال:إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخر ساجداً،لا تسجد إلا لنبي،وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل كتفه وإنا نجده في كتبنا فسأل أبو طالب أن يرده ولا يقدم به إلى الشام خوفاً عليه من اليهود فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة..
سَرَت بشائرٌ بالهادي ومولِدِه
في الشرقِ والغربِ مسرى النورِ في الظُّلَمِ
آياتُـهُ كُلَّمـا طـالَ المَـدى جُـدُدٌ
يَزينُهُـنَّ جَـلالُ العِتـقِ وَالقِـدَمِ
فاق البدور وفاق الأنبياء فكم
بالخُلق والخَلقِ من حسنٍ ومن عِظَمِ
حواه في سُبُحات الطهر قبلهم
نوران قاما مقام الصُلبِ والرحمِ
لما رآه بحيرا قال نعرفُه
بما حفظنا من الأسماءِ والسيَمِ
وكان عليه الصلاة والسلام في بداية حياته قد رعى الغنم ثم لما بلغ خمساً وعشرين سنة خرج تاجراً إلى الشام في مالٍ لخديجة بنت خويلد مع غلامها ميسرة فحدثها عن خلاله العذبة وشمائله الكريمة وما أوتي من فكر راجحٍ ومنطق صادق،ونهج أمين ففاتحت خديجة من تثق به برغبتها الزواج من محمد فعرضت نفيسة على رسول الله الأمر فرضي ثم كلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه،وأصدقها عشرين بكرة وكانت أفضل نساء قومها نسباً وثروةً وعقلا وهي أول إمراءة تزوجها ولم يتزوج غيرها حتى ماتت فرضي الله عنها وأرضاها..
وكان صلى الله عليه وسلم قبل بعثته محفوظاً من جميع أعمال الجاهلية فكان مبغضاً للأصنام لم يخر لها يوماً ولم يهمس بتعظيمها حرفا وكان على خلق عظيم يشهده له كل أهل مكة حتى أطلقوا عليه الصادق الأمين،وكانوا يودعون عنده ودائعهم،ويرضونه في التحكيم بينهم.
ولخمس وثلاثين سنة من مولده عليه الصلاة والسلام جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام فأوشكت الكعبة منه على الانهيار،فعزمت قريش على بنائها وألا يدخلوا في مالها إلا حلالاً طيباً فهدموها حتى بلغوا قواعد إبراهيم،ثم أرادوا بناءها كل قبيلة تساهم في ذلك،فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود،اختلفوا كثيراً حتى كادوا يتحاربون فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه ثم اتفقوا أن يضعه أولُ داخلٍ من باب المسجد،وشاء الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه هتفوا:هذا الأمين رضيناه،هذا محمد،فأمر برداءٍ ووضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل رفع الرداء إلى موضع الحجر الأسود فوضعه بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم..ومضى في حياته تلك حتى حبب إليه الخلاء فكان يخرج إلى غار حراء يتعبد لله تعالى فيه..وهناك في ليلة من الليالي جاءه جبريل ليكون ذلك اليوم مبدأ الوحي لتاريخ الرسالة التي قضى لها أيامه وأسهر من أجلها لياليه وهي كمالُ سيرته صلى الله عليه وسلم في جمعتنا القادمة بإذن الله هذا هو رسول الله الذي نتعبد الله بمدحه والثناء عليه،نسأل الله أن يشملنا بشفاعته ويرزقنا في الجنة صحبته ويسقينا من حوضه الشريف شربة لانظمأ بعدها أبداً إنه سميع مجيب..