الحمد لله شرف مكة على سائر الأوطان، وجعل فيها الكعبة والمشاعر العظام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلاَم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من صلَّى و حج و صام . صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الكرام و سلم تسليماً كثيراً ..أما بعد فاتقوا الله عباد الله
)إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ * فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ( إن أول بيت وضع في الأرض للعبادة هو بيت الله الحرام، عن أبي ذر أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول الله أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الأَقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ)) متفق عليه .
عباد الله ..أُسرةٌ صغيرةٌ مُكوَّنة مِن أمٍّ وطفلِها الرَّضيع استقرَّت في دوحَةٍ فوق الزّمزَم في أعلَى هذا المسجِد المبارك، لا تملِك تلكم الأسرةُ إلا جرابًا فيه تمر وسقاءً فيه ماء، ووسطَ وادٍ ليس به أنيسٌ ولا ماء ولا زرع، غير أنَّ تلك الأم المباركة لم يخالِجها شكٌّ أنَّ الله الذي اختَار لها ولِطفلها هذه البُقعة النائيةَ لن يضيِّعها وابنَها، بل اعتَصَمَت به ورضِيَت بقضائِه حينما تلاحق زوجها نبي الله إبراهيمَ عليه السلام كيف تتركنا هنا وهو لا يجيب عليها ثم قالت : ءآلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيِّعنا؛ ولهذا جاءتها البشرى فقال لها المَلك مرسلاً إليها: لا تخافوا الضيعةَ؛ هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه. الحديث رواه البخاري.
لقد أصبَحَت تلكم الأسرةُ الصغيرةُ نواةَ الحياة وأصلَ العمران في هذا المكان، وقد جاءت إلى صَحراءِ الجزيرةِ العربية بشرفِ النبوة والرسالة لا غير، فصارَ البيت الحرام لهم وعاءً وماءُ زمزم لهم سقاءً وعِناية الله لهم حِواء، حتى أذِن الله لإبراهيم عليه السلام أن يرفَعَ هو وابنه إسماعيلُ قواعدَ البيت )وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(
ومنذ ذلك الحين وجموع الناس تفِد إلى ذلك المكان شوقًا وحنينًا.
قف بالأباطح تسري فِي مشارفهـا مواكب النور هامت بالتقى شغفا
مـن كل فـج أتـت لله طـائعة أفواجها ترتَجي عفوا الكريم عفا
صوب الحطيم خطت أو المقام مشت مثل الحمائم سربًا بالحمى اعتكفا
لقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمِه أن يكونَ هذا الموطن مأوى لأفئدةِ الناس تهوي إليه من كلِّ فجٍّ عميق، وملتقى تتشابَك فيه الصلات بين الناس على اختلافِ ألسنتهم وألوانهم، فيأمر الله خليلَه عليه السلامُ بقولِه: )وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ( ومن ثَمَّ يصبِح الحجّ ركنًا أساسًا مِن أركان الإسلام الخمسةِ بالكتاب والسنّة والإجماع، ومَن أنكره فقد كفر باللهِ، ومن كفَر فإنَّ الله غنيّ عن العالمين.
عن أبي هريرة قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ r فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا))، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : ((لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ)) [رواه مسلم].
أيّها المسلمون، إنَّ الله جل وعلا حينَما جعل مكّةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس وجعل أفئدة الناس تهوي إليه أودَعَ شريعتَه الغراء ما يكون سياجًا يميِّز هذه البقعةَ عن غيرِها ويُبرِز لها الفضلَ عمّا سواها، فجعل في شريعتِه لمكة منَ الفضلِ والمكانةِ ما لم يكن في غيرِها، فتعدَّدت فيه الفضائل وتنوَّعت حتى صارَ من فضائلها أن سماها الله أمَّ القرى: )وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا( فهي قِبلة أهل الإسلام في الأرضِ ليس لهم قبلةٌ سواها؛ ولذا جزم جمهور أهل العِلم أن مكّةَ هي أفضل بِقاعِ الأرض على الإطلاقِ، ثم تَليها المدينةُ النبويّة على ساكنها أفضلُ الصلاةِ والسلام؛ ولذا صحَّ عنه أنّه قال عن مكَّة: ((واللهِ، إنك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خَرجتُ)) رواه أحمد والترمذي.
ومن فضائلِ هذا البلد الحرامِ أنَّ الله جلَّ شأنه أقسم به في موضعين في كتابه : وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ
ومِن فضائلِ مكّةَ حرسَها الله ما ثَبَت عن المصطَفى r أنّه قال: ((إنَّ مكّةَ حرَّمها الله تعالى، ولم يحرِّمها الناس، ولا يحِلّ لامرئٍ يؤمن بالله واليومِ الآخر أن يسفِك بها دمًا أو يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخَّص بقتال رسول الله فقولوا له: إنَّ الله أذِن لرسوله ولم يأذَن لك، وإنما أُذِن لي فيها ساعَة من نهار، وقد عادَت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلِّغ الشاهد الغائب)) متفق عليه، وفي روايةٍ أخرى متفق عليها أنه r قال: ((هذا البلد حرَّمه الله يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمةِ الله إلى يومِ القيامة، لا يُعضَد شوكه ولا ينفَّر صيده ولا يلتَقط لقطَته إلا من عرَّفها ولا يُختَلى خلاه)).
إنّه الأمنُ والأمان ـ عبادَ الله ـ الذي ارتضَاه الشارِع الحكيم في بلدِه الأمين ليكون نِبراسًا ونهجًا يحذو حَذوَه قاصِدوا بيتِ الله الحرام مِن كافّة أرجاء المعمورة؛ ليدركوا جيِّدا قيمةَ الأمن وأثره في واقعِ الناس والحياة على النفسِ والمال والأرواح والأعراضِ، فإنَّ الله جل وعلا اختَارَ مكّةَ حرمًا آمنًا وأرضًا مَنزوعة العنفِ والأذى ولَيسَت منزوعةَ السلاح فحسب، بل أمَّن الناسَ فيها حتى من القولِ القبيح واللّفظ الفاحش، )فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ( وأمَّن في الحرم الطيرَ والوحش وسائرَ الحيوان؛ ليكون الإحساس أبلغَ والقناعة أكمل لمن كان له قَلب أو ألقى السّمعَ وهو شهيد.
وإنَّ مما يدلّ علَى حُرمةِ مكّةَ أيضًا وُرودَ الآية الكريمة الدالّة على المعاقبةِ لمن همَّ بالسيئة فيها وإن لم يفعلها حيث قال سبحانه: )وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ( والإلحادُ هو الميلُ والحَيد عن دينِ الله الذي شَرَعه، ويدخل في ذلِكم الشركُ بالله في الحَرم أو الكُفر به أو فعلُ شيء مما حرمه الله أو ترك شيء مما أوجبه الله أو انتهاك حرمات الحرم، حتى قال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك احتكارُ الطعام بمكة.و لذلك فمن الاعتداء على الحرم هذه المظاهرات التي يدعو إليها الشيعة الرافضة باسم البراءة من المشركين لإحداث الفوضى و الدعاية لمذهبهم الفاسد.. و تاريخ مذهبهم ضلال بالأئمة و إشراك بهم و إثارة للفتن و القلاقل من خلال هذه الشعارات الصفهوية الزائفة .
كما أنَّ من فضائل مكّةَ ـ عباد الله ـ أنه يحرم استقبالُها أو استدبارُها عند قضاء الحاجة دونَ سائر البقاع لقولِه r : ((لا تستقبلوا القِبلةَ بغائطٍ ولا بولٍ، ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)) متفق عليه.
ومن فضائِلِها أيضًا ما ورَدَ في فضلِ الصلاة فيها حيثُ ثبَت عن النبيِّ rأنه قال ((صلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) . وقد اختَلَف أهلُ العلم في هذه المضاعفةِ هل هي خاصّة بالمسجِد نفسه أو بمكّة كلِّها، أي: ما كان داخِلَ الأميال، والأظهرُ والله أعلم وهو الذي ذهَب إليه جمهورُ أهلِ العلم أن المضاعفةَ تشمَل جميعَ مكّةَ، غيرَ أنَّ الصلاة في نفس المسجدِ أفضلُ، وذلك لقِدَم المكانِ ولِكَثرة الجماعة. ..
هذه بعضُ فضائل مكّة وليست كلَّ فضائلها )جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (
فما أروعها من رحلة، وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب ما نشاهده الآن من مناظر حجاج بيت الله الحرام . فهل شممتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟! وهل رأيت لباسًا قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعز وأكرم من رؤوس المحلّقين والمقصرين؟! وهل مرّ بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟! وهل سمعتَ نظمًا أروع وأعذب من تلبية الملبّين وأنين التائبين وتأوه الخاشعين ومناجاة المنكسرين؟!
أيّها الإخوة المسلمون، لنتذكر جميعًا أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأشرف يد رمت واستلمت، يَنقلُ خُطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك العبارات الناصعات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
يتقدم r في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبي الحنيفية ومُرسِي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوّي بالتهليل والتكبير: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان وتُطرِبُ الزمان وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديّان، ويقترب الرسول r من الحجر الأسود ليقبّله قبلة ترتسِم على جبينه درّة مضيئة على مرّ السنين، لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدرارًا، وتتحدر على خده الشريف المشرق r كان عمر بن الخطاب t يتابع الموقف بلهفة وتعجب: يا رسول الله، لماذا تبكي؟! يكفكف r دموعه الطاهرة ويجيب عمر بعباراتٍ هادئة خاشعة باكية قائلاً: ((هنا تسكب العبرات يا عمر)).
أيها المسلمون، حجّ المصطفى r حجة واحدة، حجة جموع ودموع، حيث تقاطرت الوفود من كلّ فج، لتنال شرف الصحبةِ مع رسول الله r . وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله تعالى: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا( وعندما سمعها عمر tبكى، فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وسمِّيت حجة الوداع. روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر t قال: كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي r بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع. وكان صلوات ربي وسلامه عليه يقول: ((إني ـ والله ـ لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)). وكان يقول في كلّ موطن: ((خذوا عني مناسككم)). إنها وصية النبي لكل حاج أن يتعلم أحكام الحج، ((خذوا عني مناسككم)). وصية النبي r لكل من شرّفهم الله بمباشرة خدمة الحجيج، أن يتّقوا الله فيهم ويسلكوا بهم هدي المصطفى إحرامًا وتفويجا، إفاضةً ومبيتا، طوفًا وسعيا، نصحًا وإرشادا، بيعًا وشراء. أن يحسنوا الاستقبال، ويؤدوا الواجب بلا استغلال، بالكلمة الطيبة وبالطريقة الطيبة، وبالأمر بالمعروف بالمعروف، وبالنهي عن المنكر من غير منكر
بارك الله لي و لكم في الفرقان العظيم و نفعني و إياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله و حد ه و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده و بعد..
فاتقوا الله معاشر المسلمين، ثم كونوا على علمٍ ـ إخوة الإيمان ـ أنكم في عشر ذي الحجة وهي أيامٌ مباركات، روى البخاري أن النبي r قال عنها: ((ما من أيام هي أفضل العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني عشر ذي الحجة، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)). وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن عشر ذي الحجة هي المقصودة في قول الباري جلَّ شأنه: )وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ( وقد قال ابن كثير: "وبالجملة فهذه العشر قد قيل: إنها أفضل أيام السنة، كما نطق بذلك الحديث، وفضله كثير على فضل عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يُشرع فيه ما يُشرع في ذلك من صيام وصدقة وغيرها، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه".
إخوة الإيمان، إن الأعمال في هذه العشر تتنوع ما بين صوم وصدقة وتوبة نصوح وإكثار من التحميد والتهليل و التكبير ، كما أن فيها الأضحية والحج، يقول المصطفى r : ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهنَّ من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد)) رواه أحمد .. فلنحرص على الإكثار من ذكر الله فيها بالتكبير في الطرقات والمساجد والبُيوت، وهو التكبير المطلق، والذي من صفاته: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. وهكذا جاء عند البخاري أنَّ أبا هريرة وابن عمر رضي الله عنهما كانا ينزلان إلى السوق، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقد ثبت عند أبي داود والنسائي أن النبي r كان يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر. فلا حرج أن يُصام منها ما يُستطاع إن لم يكن كلّها، وبالأخص يوم عرفة، لما له من الأجر العظيم، كما جاء عند مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: سُئل النبي r عن صوم يوم عرفة، قال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)).
كما أن السنة قد دلت ـ يا رعاكم الله ـ على أن من أراد أن يضحي وقد دخلت عليه العشر فلا يأخذ من شعره أو أظفاره أو بشرته شيئًا حتى يضحي، كما جاء عند مسلم في صحيحه.
عباد الله، صِلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الوالدين والإخوان في هذه الأيام، وأكثروا من الصدقات والإحسان إلى الفقراء، وعمّروا لياليها بطلب علم أو قيام ليل تكونوا من الفائزين بإذن الله...