أما بعد:فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله فإن فيها العزَّ بعد الذل،وبها الأمن بعد الخوف.. وتعالوا لنتكلم عن موضوع مهم يخصُّ كثيراً من الناس في مجتمعاتنا..
عباد الله..في زمنٍ بلغت الحضارة المادية والاختراعات الطبية العلمية أوجها وكان يفترض بها أن تملك الحلول لجميع الأزمات إلا أن الفقر زاد والجهل عمّ والحروب تفاقمت وأصبحت أعلى البلاد دخلاً للفرد أعلاها بنسبة الانتحار وصرنا نسمع عن حالاتٍ نفسيةٍ غريبةٍ وجرائم شنيعةٍ في مجتمعاتنا لم نكن نعلنها أو نعرف بها حتى وُصف هذا العصر بأمواله وسرعة اتصاله وكثرة ترفيهه بعصر الحزن والقلق والاكتئاب. الحزن والاكتئاب ـ عباد الله ـ هما آفة العصر المدمرة، وهما أوسع الآفات النفسية انتشاراً في العالم، وأكثرها لدى الناس إلا ما شاء الله، وهي لا تزال في ازدياد ملحوظ كلما ازدادت الإصابة بها فهما يجعلان الحياة موتاً،والدنيا نكداً وهماً،واللذة تعاسة والأرض الواسعة ضيقة بما رحبت وصرنا نسمع أعراض الحزن والاكتئاب والهم والكدر والملل وأمراض ضيق الصدر والعزلة عن الناس وقطع الصلة بالله وضعف العبادة نسأل الله العافية والسلامة والشفاء لمن ابتلي.ثم إن المترقب لآخر الإحصاءات العالمية ليجد أن عشرةً بالمائة من سكان العالم يعانون من آفة الحزن والاكتئاب،بما في ذلكم بلاد المسلمين،وهذا يعني بداهة وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير،وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن الأجيال التي وُلدت في هذه العقود الأخيرة يبدأ عندها هذا الحزن والاكتئاب في سنٍّ أصغر وبمعدلات أكبر، نظراً للعوامل الاجتماعية المؤثرة،كما وُجد أن هذا الداء ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من انتشاره بين الذكور بنسبةٍ تصل إلى الضعف تقريباً،وذلك بسبب فقدان وانحراف الوظيفة الحقيقية للمرأة،وتحميلها ما لا تطيق من أعباءَ حياتية أودت بها إلى ترك بيتها،والزجّ بطفلها بين أحضان الخادمات وعقول المربِّيات الأجنبيات.بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب الحزن والاكتئاب الشديد ما يزيد على ثمانية مليون شخص في العالم كل عام أو أكثر،ناهيكم عن كون ثمانين بالمائة من المصابين بهذا المرض لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهنا مكمَن العجب ولقد رأينا ظاهرة الحزن والاكتئاب منتشرة في مجتمعنا بعد عدد من النكسات المادية على وجه الخصوص .
إن هذه الظاهرة ـ عباد الله ـ ليست وليدةَ هذا العصر وإن هي زادت فيه،ولا هي من الأدواء التي لا يُعرف لها ما يعالجها،أو يزيل عُمقَ وجودها في المجتمعات،كلاَّ بل هي ظاهرة مرهونة بمدى انغماس الناس في متاع الحياة الدنيا وسيطرة النظرة المادية عليهم ولعل من أسباب انتشار ظاهرة الكآبة ضغوط الحياة وإيقاعها السريع وتعطيل الفطرة السليمة وغياب الاستقرار الأسري مما ينميها وكذلك تهميش الدين بكآفة عباداته..من أسبابها أيضاً تفاوتُ المجتمعات في مدى إيمانها بالله وتطبيقها لشرعه والإيمان بالقدر خيره وشره ثم في استقامة الأمن والإعلام والتعليم واستقرار العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة وحب الذات وهلمَّ جرا ولقد سيطرت هذه الظاهرة سيطرةً مزدوجةً على اهتمامات وأبحاث الكاتبين عنها للبحث عن حلول لها بين الطب الشرعي والطب النفسي..
عباد الله،الحزنُ في لغة العرب مأخوذ من الحَزَن وهو الاغتمام، يقولون: حَزِن الرجل إذا اغتمّ واشتد همُّه،وقد قال ابن القيم رحمه الله:"أربعةٌ تهدمُ البدن:"الهمُّ والحزن والجوع والسهر".
وكثرةُ الحزنِ سببٌ لضعف البدن وهو مرتهن بالبلاء ولم يرد الحزنُ في القرآن إلا منهياً عنه وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وقوله وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وقوله لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا وقوله وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ وسببُ النهي عن الحزن أنه لا مصلحةَ فيه للقلب بل هو أحبُّ شيءٍ للشيطان إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فمن ابتلي بشيءٍ من الحزن فلا عيبَ في مراجعةِ طبيبٍ نفسي ثقة وصاحب دينٍ و مشاورته في مثل هذه الأمور التي يمكن بفضل الله القضاء عليها في بدايتها.
وإن الفهمَ الصحيحَ في التعاملِ مع الحزنِ والاكتئابِ من خلال الإيمانِ والدينِ الصحيح هو المطلوبُ إذا ينحصرُ التعاملُ مع الأحزان عندَ البعضِ في العويلِ والانتحارِ والمصحاتِ وإدمانِ العقاقير والمخدراتِ أو اللهوِ الباطلِ بالمعازفِ والغناءِ ولابدَّ أن نعلم أن علاجَ الحزنِ والاكتئابِ مع العلاجِ الطبي المناسب عبر جوانب إيمانية من كتاب الله وسنة نبيه .
وإذا قد عرفنا صورة هذه الأزمة،فما أسبابُها الظاهرة؟وما علاجُها المرجو؟فهناكَ مسبباتٌ طبيةٌ بحتة،لا يمكنُ تجاهلُها،مثل كثرة تعاطي الأدوية والعقاقير التي تؤدي بدورها إلى تغيّرات كيميائية في الدماغ.ومن ذلك أيضاً تعاطي المخدرات والمسكرات المؤدية إلى الإدمان المروِّع والإحساسُ بأنَّ الحياة لا شيء بدونها.ومن ذلك العوامل الوراثية وبعض الأمراض العضوية أو العين والحسد نسأل الله السلامة والعافية..
وهناك أسبابٌ تكلَّم عنها القرآن الكريم من أنَّ خواء القلب من ذكر الله ويُبس اللسان منه أمارةٌ من أماراتِ الضيق والنكدِ والحزن: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ جاء في السنة قوله

ومن أسبابِ ذلك أيضاً قلقُ كثيرٍ من الناس وخواءُ أفئدتِهم من الإيمان بالله وبقضائه وقدره، وفزعهم من المستقبل المجهول،والشعورُ بالوهن عن حمل المصائب وتحمُّلِ المشاقِ،فتجدُ أمثال هؤلاء قوماً يفرَقُون، لو يجدون ملجأً أو مغارات أو مُدَّخلا لولَّوا إليه وهم يجمحون فينعزل عن الناس انعزالاً مذموماً.
ومن أسباب ذلك ـ عبادَ الله ـ إجلابُ الشيطانِ بخيلهِ ورجلهِ على ابنِ آدم فيوسوسُ إليه ليخنس، ويقذفُ في قلبهِ الحُزنَ والكآبةَ من خلال تشويشه بكمّ هائل من الأحلام والرؤى والكوابيس الشيطانية في المنام،حتى تصبحَ في حياةِ الفردِ هاجساً مُقلقاً عندَ كلِّ غمضة عين. ولذلك يُصاب المكتئِب بالأَرق المزمن وقلَّةَ النوم، وقد صحَّ عندَ مسلم أن النبي ذكرَ نوعاً من الرؤى وهي التي تكونُ تحزيناً من الشيطان يُحزِنُ بها ابنَ آدم وهذا ما رأيناه حصلَ في مجتمعِنا وغيرها من المجتمعات عند النكسات المالية في الأسهم والتجارات والبورصات أو بعولهم بتفسير الأحلام عند كل أحد خصوصاً النساء..
وسببٌ آخر من أسباب هذه الأزمة يبرز من خلال كثرة الديون مع العجز والكسل عن إيفائها، أو الجبنِ والبخل الذي يُصيبُ المرء فالكرم سببٌ للسعادة روى أبو داود في سننه أن النبيَّ دخل المسجدَ ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يُقالُ له أبو أمامة، فقال



هذه بعض الأسباب لا كلُّها،وقد رأينا صلتَها الوثيقة بما جاء التحذيرُ عنه في ملتنا السمحة. في حينِ أن أهمّ سببٍ لحصولِ الكآبةِ والحزنِ هو البعدُ عن هدايةِ الله والاستقامةُ على طريقة والتعلقُ بالأسباب الدنيوية بعيداً عن مُسبِّبها سبحانه،ومن تعلَّق شيئا فقد وُكل إليه، ومن وُكل إلى غيرِ الله فقد وُكل إلى ضيعة وخراب، فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَاء كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
ومما يساعد على نبذ الكآبة والحزن القيام بعزائم الأمور والحذر من متاع الدنيا وزينتها؛فبمثل ذلك يكون الانشراحُ والطمأنينة،ويزولُ الضيقُ والضنك،يقول

ودواءٌ آخرُ للحزن والاكتئاب ـ عباد الله ـ يكمُن في الموقفِ الصحيح مع القضاءِ والقدرِ،وبلوغِ منزلة إيمان العبد بأنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه،وما أخطأه لم يكن ليصيبه،وأن الأمور بيد الله مقاديرها،وأن الأرزاقَ مقسومةٌُ والآجالُ محتومة،وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فالمرءُ يتوكِّلُ على ربِّه دون توتُّر ولا ريبة ولا قلق؛إذ بمثل هذا يستقبلُ الدنيا بشجاعةٍ ويقين،ومن الأدويةِ ـ عبادَ الله ـ تحقيقُ الرضا عن الله سبحانه،فمن قلَّ رضاهُ عن الله صار مرتعاً للأوهام والأحزان والأدواء،وقد سُئل الحسن البصري رحمه الله:"من أين أُتي هذا الخلق؟-أي الهم والحزن-فقال:من قلة الرِّضا عن الله".ونقل أبو حاتم البستي عن بعض السلف قوله:"لا أعلم درجةً أشرف ولا أرفعُ من الرضا،وهو رأس المحبة،ولذلك دعا به زكريا لولده فقال: وَٱجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ومن الرضا القناعة فهي كنزٌ لا يفنى وارض بما قسم الله لك تكن أسعد الناس..والرضا عن الله لا يكون إلا باستحضار العبد لحكمة الله في الأقدار،وأنه لا يعطي ولا يمنع إلا لحكمة بالغة مما يهوّن على المرء ما يلاقيه من المصائب والأقدار المؤلمة،بل حتى في حال الفرح كما قال سليمان : هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُر
ويدلُّ لذلك قوله حين وفاة ابنه إبراهيم

ومن الأدوية أيضاً كثرةُ التسبيح والسجود والعباد: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ وقد كان إذا حَزَبه أمرٌ فَزِعَ إلى الصلاة،وكان يقول صلوات الله وسلامه عليه

ومن الأدوية كذلك ما يُسمّى بالتلبينة،وهي طعام يُصنعُ من حساء،من دقيق أو نخالة، ويُجعلُ فيه عسل أو لبن أو كلاهما،لما رواه البخاري ومسلم من حديثِ عائشةَ رضيَ الله عنها أن النبي قال: ((إن التلبينة تُجمُّ فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن))وقوله



الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة و السلام على من لا نبي بعده وبعد..
أيها الإخوة ..يناسب في مواسم الإجازات أن نتحدث عن نعمة الله لنا بهذا الأمن والأمان الذي نعيشه وهو سبب للفرح والسرور وإدخال الحبور على أفراد الأسرة والأقارب وهي وصية للآباء بضرورة إسعاد أسرهم وأقاربهم وإدخال السرور عليهم..
أيها الإخوة..بعض الآباء لا يهتم إلا بنفسه وسعادته مع أصحابه تاركاً أسرته وأولاده وهذا خطأٌ وتقصير فالإجازة فرصة لصلة الأرحام والتواصل مع الأولاد والزوجات..وليس بالضرورة أن ذلك لا يتحقق إلا بالسفر للخارج كما يظنه البعض بل هناك فرص كبرى لجلب السعادة للأسرة في مجتمعنا وداخل بلادنا ولله الحمد الكثير..
ومن ذلك المتنزهات البرية في هذا الوقت مع الانتباه إخوتي لمشكلات عدم الاختلاط الكثير في الأسواق والمهرجانات التي تقام وكذلك عبث النساء بالدرجات النارية أو السيارات وجلب الأخطار وإفساد البيئة الذي يمارس في متنزهاتنا..فلنحرص إخوتي على كلِّ ما يجلب السعادة لنا ولأسرنا مع حرصنا على عدم التخلي عن ضوابط ديننا وقواعد أخلاقنا وحفظنا لنسائنا وتذكروا ما تعيشون به من نعمٍ عظيمةٍ والله حرمها كثيراً ممن حولنا ممن نراهم قد فقدوا الأمن وعمَّ الخوف وقلَّ المال وكثر القتل ..
نسأل الله السلامة و العافية ..اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان وارزقنا شكرها..اللهم وكن لإخواننا المسلمين ..
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين ..