• ×

03:51 صباحًا , الثلاثاء 6 محرم 1447 / 1 يوليو 2025

صنائع المعروف

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله عظيم الشأن والإحسان،أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من جزيل الفضل والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.أما بعد فاتقوا الله عباد الله..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتاً في سَحَابَةٍ:اسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ،فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفْرَغَ مَاءهُ في حَرَّةٍ،فإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَت ذَلِكَ الماءَ كُلَّهُ،فَتَتَبَّعَ المَاءَ،فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ،فَقَالَ لَهُ:يَا عَبْدَ اللهِ،ما اسمُكَ ؟قال:فُلانٌ للاسم الذي سَمِعَ في السَّحابةِ،فقال له:يا عبدَ الله ، لِمَ تَسْألُنِي عَنِ اسْمِي؟فَقَالَ:إنِّي سَمِعْتُ صَوتْاً في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ،يقولُ:اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ،فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا، َقَالَ:أمَا إذ قلتَ هَذَا،فَإنِّي أنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً،وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَه رواه مسلم
عباد الله..جرت سنة الله تبارك وتعالى في البشر أن جعل بعضهم لبعضٍ سُخريّاً، لا تتم لهم سعادتهم إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف وفشو المودة. يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ. ولا يكون الشقاء ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، ولا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يعترفون لغيرهم بحق..
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس

كم هو مؤثر أن ترى لاجئاً مسكيناً بليت ثيابه حتى تكاد تُرى عورته،يهلكه البرد،ويقتله البؤس أو تُبصر حافيَ القدمين أدمت حجارة الأرض أصابعه وقطعت عقبيه،أو تلحظ جائعاً يمدُّ عينيه إلى شيءِ غيرِه فينقلب إليه البصر وهو حسير.إنها صور نراها هنا وهناك في أطراف البلاد وبعض عوالمنا الإسلامية..حيث الجوع والخوف واللجوء..
وحين تنتشر هذه الصور ولا يكترث القادرون،ولا الأغنياء فكيف يكون التراحم والتعاطف لأن الله برحمته حين خلق المعروف خلق له أهلاً،فحبَّبه إليهم،وحبَّب إليهم إسداءه،وجَّههم إليه كما وجَّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها،وإن الله إذا أراد بعبده خيراً جعل قضاء حوائج الناس على يديه،ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلق الناس به،فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها،وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال وانصرف الناس عنه ونحن بحمد الله نرى في مجتمعاتنا من يبذل الخير بماله وجاهه ونفسه يبتغون الأجر قال صلى الله عليه وسلم(إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده يقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم))أخرجه الطبراني..وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً(ما من عبد أنعم الله عليه نعمةً وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم فقد عرَّض تلك النعمة للزوال))رواه الطبراني..وفي ديننا شرائع محكمةً لتحقيق التواصل والترابط،تربي النفوس على الخير، وترشد إلى بذل المساعدات وصنائع المعروف. قال صلى الله عليه وسلم(من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة،ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))أخرجه مسلم،وفي الصحيحين أيضاً(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه،ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته،ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة،ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة))أخرجه البخاري وتفريج الكربة بإزالتها أعظم من تخفيفها،فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربته،والتيسير على المعسر في الدنيا جزاؤه التيسير من عسر يوم القيامة،وحسبك((فذلك يومئذٍ يومٌ عسير على الكافرين غير يسير))وفي صحيح مسلم(من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه))،((ومن أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه))،والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً،وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعباده،وصنائع المعروف تقي مصارع السوء..قال بعض الحكماء:أعظم المصائب أن تقدر على المعروف ثم لا تصنعه..والغبطة حقاً فيمن يسَّر الله له خدمة الناس والسعي في مصالحهم..
وأسعد الناس من بين الورى رجل
تقضي على يده للناس حاجات

واشكر صنيعة فضل الله إذ جعلت
إليك لا لك للناس حاجات

قد مات قوم وما ماتت فضائلهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات

يقول عليٌّ رضي الله عنه:يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير!عجبت لرجلٍ يجيئه أخوه لحاجته فلا يرى نفسه للخير أهلاً!فلو كنا لا نرجو جنةً ولا نخاف ناراً ولا ننتظر ثواباً ولا نخشى عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق..فإنها تدل على سُبُلِ النجاح؟فقام رجل فقال:يا أمير المؤمنين:أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟قال: نعم، وما هو خيرٌ منه: لقد أُتيْنَا بسبايا طيٍّ..كان في الناس جاريةٌ حسناء تقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت:يا محمد،هلك الوالد،وغاب الوافد،فإن رأيت ألا تخلي عنِّي فلا تشمت بي أحياء العرب،فإني بنتُ سيدِ قومي،كان أبي يفك العاني،ويحمي الذِّمار،ويقري الضيف،ويشبع الجائع،ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام،ويفشي السلام،ولم يردَّ طالب حاجة قط،أنا بنت حاتم الطائي فقال صلى الله عليه وسلم(يا جارية هذه صفة المؤمن خلُّوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق)) فأطلقها رسول الله لما عند أبيها من الكرم والخلق،وإن دروب الخير أيها المسلمون كثيرة وحوائج الناس متنوعة؛إطعام جائعٍ،وكسوة عارٍ..عيادة مريضٍ،وتعليم جاهل..وإنظار معسر،وإعانة عاجز،وإسعاف منقطع،تطرد عن أخيك هماً، وتزيل عنه غماً..تكفل يتيماً،وتواسي أرملة..تكرم عزيز قومٍ ذلَّ،وتشكر على الإحسان،وتغفر الإساءة.. تسعى في شفاعة حسنة تفك بها أسيراً،وتحقن بها دماً،وتجرُّ بها معروفاً وإحساناً..وغير ذلك من أبواب الخير فابحث لنفسك عما تستطيع أداءه وتحسنه فكلٌ ميسرٌ لما خُلقه له..تكافلٌ في المنافع وتخفيف للمتاعب،وتأمينٌ عند المخاوف،وإصلاحٌ بين المتخاصمين،وهدايةٌ لابن السبيل..فإن كنت لا تملك هذا ولا هذا فادفع بكلمةٍ طيبةٍ وإلا فكُفَّ أذاك عن الناس.
قال صلى الله عليه وسلم(تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة))أخرجه البيهقي..فكل معروف صدقة،وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة،والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفاً أو تقضي به حاجة وتدخر لك به أجراً فما هو إلا لوارث أو لحادث،لوارث قد لا ييسره الله للصدقه عن مورثه أو لحادثٍ أو آفةٍ وتقضي عليه واعلم أخي أن صنائع البر والإحسان تُستعبد بها القلوب.
والشحيح البخيل يعيش في الدنيا عيشة الفقراء ويحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء، فلا تكن أيها الغني القادر خازناً لغيرك وهذا ما نراه مع الأسف في حال بعضنا حين يخزن الأموال ولا يتبرع بل بعضهم بالزكاة عياذاً بالله ثم يأتي أولاده من بعده ليرثوه..فلا يقدموا عملاً له خيرياً ولا صدقة جارية.
أيها الإخوة..إن صفو العيش لا يدوم، وإن متاعب الحياة وأرزاءها ليست حكراً على قومٍ دون قوم، وإن حساب الآخرة لعسير،وخذلان المسلم شيء عظيم..ألسنا نرى ما يحيط بالفقراء هنا من تعب بالعيش؟!ألسنا نسمع ونرى أحوال إخواننا المسلمين ومجاعاتهم ودماءهم التي أفقرتهم وقتلهم ثم كثير من الأغنياء المسلمين لا يحرك ساكناً..والمسلمون هانوا أفراداً وهانوا أمماً حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهت فيهم حبال المودة. سادت الأنانية والعصبيات وحب الذات حتى المساعدات..
بل إن بعض غلاظ الأكباد وقساة القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين.. يزلقونه بأبصارهم في نظرات كلها اشمئزاز واحتقار.وتجد بعضهم يخذل عن دعم إخوانه المسلمين ويضع العوائق الوهمية أمام المتبرعين فتجده من حرمان الله له مغلاقاً للخير الذي حرم منه أصلاً وهو الذي يتقلب بنعم الله هنا..ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعَدَت عليهم العوادي، واجتاحتهم صروف الليالي..فاستدار عزهم ذلاً،وغناهم فقراً،ونعيمهم جحيماً؟وما أكثر الأمثلة لبلدان حولنا كيف تحولوا في فترة قصيرة من غنىً إلى فقر ومن عزة إلى ذل((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))
فاتقوا الله رحمكم الله وأصلحوا ذات بينكم، ولتكن النفوس سخية، والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة وسارعوا إلى سداد عوز المعوزين، ومن بذل اليوم قليلاً جناه غداً كثيراً.. تجارة مع الله رابحة، وقرض لله حسن مردود إليه أضعافاً مضاعفة.. إنفاق بالليل والنهار والسر والعلن: ((ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
الخطبة الثانية
..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده....وبعد..فاتقوا الله....
واعلموا أن من أفضل وجوه الإنفاق الصدقة الجارية التي تبقى للإنسان في حياته وبعد مماته قال صلى الله عليه وسلم((يقول الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ)) أخرجه أحمد
ولذلك أيها الأحبة فإن الوقف الخيري من التبرعات المهمة التي تفيد الإنسان بدوام أجرها وتنفع أعمال البر باستمرارها وإذا تأملنا التاريخ الإسلامي رأينا اهتماماً جيداً وكبيراً بالأوقاف العامة المخصصة لمصالح المسلمين من أيتام وتعليم وفقراء ومعاقين وغير ذلك وكم من مشروع انقطع خيره حين لم يكن له وقف يريع عليه؟فالوقف عباد الله من المصالح المهمة للأمة وعليه يقوم نماء الخير واستمراره،وإن قل فليس بالضرورة أن يكون كبيراً ولكن على قدر مال الإنسان وتصور أخي لو أنك تقطع القليل من مالك كل شهر فتنمية كوقف خيري عندك ماذا يصبح بعد سنوات وتبذله لأحد الجهات الخيرية ليوقفوه لك فهذا فضل عظيم حُرم منه البعض وتجد بعض كبار السن من الموسرين لايبادر في حياته بجعل الوقف أمامه ناجزاً بل ينتظر وفاته ليسجل في وصيته إيقاف ثلث ماله وكان الأحرى به أن يوقفه في حياته ليرعاه ويؤسسه جيداً ويهتم بمصروفاته ويقيم الناظر المناسب فهذا أولى وأحرى فاجتهدوا عباد الله في البذل والوقف والصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها بعد موت الإنسان..وهناك احتياجات كثيرة للوقف في بلادنا تنتظر من يرعاها وينميها ويبذل لها استثماراً لحياته ولا ينتظر الإنسان موته ثم يكون الأمر متروكاً للوارثين إن بذلوا المال لمورثهم أو تركوه..نسأل الله أن يتقبل من الباذلين بذلهم ومن المحسنين إحسانهم..اللَّهُمَّ نسألك فَرَجَكَ القَرِيبَ العاجل لإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ فِي سوريا،وبورما،وفلسطين اللَّهُمَّ قَدْ تَدَاعَى عَلَيْهِمْ أَعْدَاءٌ لَكَ أَهْلَكُوا الْحَرْث وَالنَّسْلَ، وَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ سواك،وَلاَ كَاشِفَ لُغُمَّتِهِمْ سِوَاكَ فَاجْعَلْ لَهُمْ فَرَجاً وَمَخْرَجاً وَأَيِّدْهُمْ بِنَصْرٍ مِنْ عِنْدِكَ وَادْحَرْ عَدُوَّهُمْ وَتَقَبَّلْ شُهَدَاءَهُمْ وَأَخْلِصْ نِيَّاتِهِمْ يَا رَبَّ العَالَمِينَ،اللهم احفظ على بلادنا وبلاد المسلمين أمنها وأمانها واستقرارها..وجنبنا الفتن ماظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين...


 0  0  1136
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 03:51 صباحًا الثلاثاء 6 محرم 1447 / 1 يوليو 2025.

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.