أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المسلمون،طلب الرزق غريزة عند الأحياء،وما إن تبدو بوادر الصباح حتى ترى الناس بكافة أعمالِهم وأعمارِهم يستعدّون للبدء في كدح طويل كي يحرز كل امرئ منهم قوته وقوت عياله، وهذا الكدح الطويل والسعي الحثيث امتحان للأخلاق والمسالك والثبات واليقين والطمأنينة والرضا، فاللهف على تأمين العيش واللهث من أجل سدّ أفواه الصغار قد يضعف بعض النفوس إلى الخَتْلِ والتلوية والكذب والحيف والتدليس والغش، وربما وجد ضعاف يتملقون أقوياء على حساب الأبرياء، وربما رأيت أذلاء يذوبون في أعتاب كبراء، وغير ذلك من مخالفات وأخطاء.
إن دين الإسلام يأبى أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة إلى هذه الآثام كلها، وينهى أن يلجأ المسلم أبدا إلى عش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء من حطام، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته)) رواه الحاكم في مستدركه.
والحل وسط هذه الحال والمخرج من تلك الآثام هو التوكل على الله، روى الترمذي وابن ماجة والحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول


التوكل على الله إخوتي سبب للصبر على ما نراه من كروب وشدائد تحيط بأمتنا المسلمة وشعوبها المستضعفة فنتقوى جميعاً بالله بالتوكل عليه..التوكل هو حال المؤمن القوي الذي يجب أن يكون وثيق العزم مجتمع النية على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقربه إلى الله،وباذلا قصارى جهده في بلوغ مأربه، وليس بالتفريط المعيب والتخاذل الذميم، عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين، فلما أدبرا قال المقضي عليه: حسبي الله ونعم والوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم

أيها الإخوة المؤمنون، التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجوه والأفلاك والأكوان، فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه.
التوكل قطع القلب عن العلائق ورفض التعلّق بالخلائق وإعلان الافتقار إلى محول الأحوال ومقدر الأقدار لا إله إلا هو. إنه صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار منه في أمور الدنيا والآخرة، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله وفي الله وأمل يصحب العمل وعزيمة لا ينطفئ وهجها مهما ترادفت المتاعب.
بالتوكل ترفع كبوات البؤس وتزجر نزوات الطمع،فلا يَكبح شَرَهَ الأغنياء ولا يَرفَع ذلّ الفقراء سوى التوكل الصادق على الحيّ الذي لا يموت، يقول سعيد بن جبير رحمه الله:"التوكل على الله جماع الإيمان".
المتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية ونفس مؤمنة موقنة، قال بعض الصالحين: "متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا"، وقال بعض السلف: "بحسبك من التوسّل إليه أن يعلم قلبك حُسن توكلك عليه".
والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة، تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات.عن ابن عباس رضي الله عنهما قال

التوكل الذي يقوى الإنسان به ضربٌ من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونا ولا أملا.
التوكل غذاء الكفاح الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم ودعاة دينهم مظالمَ الطغاة وبغي المستبدين كما بيّنه الله تبارك وتعالى: ((وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ))
التوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصممة، وليس العجز والكسل، ولم ينفرد التوكل عن القوة والحزم إلى الضعف والتواكل إلا في العصور التي مسِخ فيها الإسلام في قلوب أهله وأصبح بين أتباعه لهوا ولعبا ترى همماً قاعده وأمنياتهم تفاؤلاً باسم التوكل بلا عمل..
عباد الله، إن أول بواعث التوكل ومصادره توحيد الله وإفراده بالعبادة، فالرب المعبود سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا

والتوكل أجمع أنواع العبادات وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها، وما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والرضا العميق واليقين الثابت، ولقد جاء الأمر به في كتاب الله في أوجه مختلفة وسياقات متعددة، بل لقد جعله شرطا للإسلام والإيمان، يقول سبحانه وتعالى




أيها المسلمون،إن تحقيق التوكل لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب البينة، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله،والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله،فالمتوكلون في كتاب الله هم العاملون ((نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(58)الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ))وإمام المتوكلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رأينا في سيرته الأخذ بالأسباب، فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَر في بعض غزواته بين درعين، وتعاطى الدواء،وقال




فليس التوكل بإهمال العواقب واطِّراح التحفّظ، بل ذلك عند العقلاء والعلماء عجز وتفريط يستحق صاحبه التوبيخ والاستهجان، وجاء أمر الله بالتوكل بعد التحرّز واستفراغ الوسع حين قال: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ))المؤمن إخوتي هو من يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكّلا ولا توكّله عجزا، إن تعسّر عليه شيء فبتقدير الله، وإن تيسّر له كل شيء فبتيسير الله.
المسلم المتوكل يخرج من بيته متوجها إلى عمله ومهنته تَزْدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزلَّ أو أُزَلّ، أو أَضِل أو أُضَلّ، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهل أو يجهَل عليّ.وإذا أوى إلى فراشه قال كما في الحديث ((اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهتي وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهر إليك رغبةً ورهبةً لا ملجأ ومنجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت)) يقول عليه الصلاة والسلام فإنك إن بت من ليلتك قمت على الفطرة،وإن أصبحت أصبت خيراً))متفق عليه..
أخي المؤمن،ثمة موطن من مواطن العمل لا يكون على وجهه ولا تتحقّق غايته إلا حينما يكون التوكل لله عموده، إنه موطن الصبر والحقّ والثبات على المواقف وعدم التنازل عنها، وهو الذي يحمل عبئه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والدعوة والإيمان والصلاح والإصلاح، فهم حين يتعرضون لمخاوف مزعجة لا يثبتون على الروع والغبن إلا لأملهم في الله واستنادهم عليه، لا يثبتون إلا بالتوكل الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم ويعينهم على مواجهة الأخطار بعزم وثقة واطمئنان،تراهم بعد ذلك الابتلاء فإذا هم أقوى يقيناً وأشد رسوخاً وأقوى عزيمة وأبذل في الجهد في الدعوة إلى الله وما نراه من صبر وثقة بالله لدى بعضهم أمرٌ قد يستغربه الضعفاء الواهنون ويستنكرونه،ولذلك حين قال موسى وهارون عليهما السلام بعد أمر الله لهما بدعوة فرعون






الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده و بعد..
أيها المسلمون،من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكّله أصحّ وأقوى،ومن لم يكن كذلك فهو يظن من ضلاله أن حظوظا عميا هي التي تقرّر مصائر الحياة والأحياء.
إن المقطوعين عن الله هم عبيد الحظوظ الشاردة والأسباب المبتورة. إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون البطالون، ضعيف التوكل لا هو عند الوجود يشكر رتبته، ولا هو عند العدم يرضى حالته. و إن من الجهل بالله وصفاته وضعف الإيمان بوعده ووعيده أن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه معتمد عليه والله يقول

إن المحروم ـ إخوتي ـ لن يدرك مهما ألحّ وطلب،والمرزوق سوف يأتيه رزقه مهما قعَد، ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأجملوا في الطلب، وتوكلوا على الله، فإن الله يحب المتوكلين.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...