الحمد لله ميَّز أهل السنة بالتسليم لأدلة القرآن المبين وآثرهم بالهداية إلى دعائم الدين ، وجنبهم زيغ الزائغين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله ، دعا إلى الحق والهدى حتى أتاه اليقين . صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .أما بعد:
أيها المسلمون
(من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) إن من أنبل ما يعمل له العاملون نشر علم نافع تحتاج إليه الأمة، يهديها من الضلالة، وينقذها من الغواية، ويخرج النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد. وكيف لا يكون كذلك وقد حض الله تعالى عليه بقوله الكريم: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ، وأوجب على أهل العلم نشره ونهاهم عن كتمانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَه وقال رسول الله : ((من علِم علمًا فكتمه أُلجِم يوم القيامة بلجام من نار)).
أيها المسلمون
و من وسائل نشر العلم التصدي للإفتاء لعموم الحاجة إليه وكثرة التعويل عليه لا سيما في هذه الأيام التي قلَّ فيها الإقبالُ على العلمِ، واكتفى معظمُ المستمسكين بهذا الدين باستفتاء العلماء عما يعرض لهم أو يؤرق بالهم، لتصحيح عبادة أو تقويم معاملةٍ ، و لذلك فلا يُستغرب البيان الصادر من ولي أمر هذه البلاد و فقه الله إلى المفتي حول موضوع الفُتيا الذي يراد منه ضبط الفتوى و حفظ حمى الدين ، و التعريف بحدود الشرع الحنيف ، و تعظيماً لحدود الله جلَّ و علا و ما زال الإفتاء قائمًا منذُ فجرِ الإسلامِ وحتى هذهِ الأيام، حتى خلّف العلماء كثيرًا من كتب الفتاوى والنوازل التي زخرت بها المكتبة الإسلامية و كانت مصدر إشعاعٍ علمي و حضاري يُبينُ الاهتمام الشرعي و ما للفتوى من منزلةٍ كبرى ، لأنها بيان حكم الله تعالى بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول. وقد تقلَّدَ رسول الله هذا المنصب العظيم، فكان له منصب النبوة و الإمامة و الإفتاء وتكتسب الفتوى أهميةً بالغةً لشرفِها العظيم ونفعها العميم، فقد تولاها بنفسهِ ربُّ الأربابِ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَاب ، وقال تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَة قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين وأمينُه على وحيه، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِين . فكانت فتاويه جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب". ثم خلفه في منصب الإفتاء كوكبة من صحابته الكرام قامت به أحسن قيام، فكانوا سادة المفتين وخير مبلغ لهذا الدين، قال قتادة في تفسير قول الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَق ، قال هم : أصحاب محمد . ثم جاء من بعدهم التابعون والعلماء العاملين، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم من علم غزير وقلب مستنير ورقابة لله العليم الخبير، فأسدوا إلى الأمة خدمات جليلة كان لها أثر في نشر العلم وإصلاح العمل..ومما يُظهر منزلة الفتوى أيضًا أنها بيان لأحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، ولهذا شبه ابن القيم المفتي بالوزير الموقع عن الملك، فأصدر كتابه الشهير إعلام الموقعين عن رب العالمين .
أيها المسلمون
ولئن كانت حاجةُ الأمةِ إلى الفتوى كبيرةً فيما مضى، فإن الحاجةَ إليها في هذهِ الأيامِ أَشد وأَقوى، فقد تمخض الزمانُ عن وقائعِ لا عهدَ للسابقين بها، وعرضَت للأمةِ نوازلُ لم يخطر ببالِ العلماءِ الماضين وقوعُها، فكانت الحاجةُ إلى الإفتاءِ فيها شديدةٌ، لبيانِ حُكمِ اللهِ تعالى في هذهِ النوازل العديدة، إذ لا يُعقل أن تَقفَ شريعةُ اللهِ العليمِ الحكيمِ عاجزةً عن تقديمِ الحلولِ النَاجعةِ لمشكلاتِهم المتسعةِ لِكُلِّ ما يحدثُ لهم أو يُشكلُ عليهم، وهي الشريعةُ الصالحةُ لكل زمانٍ، الجديرةُ بالتطبيقِ في كل مكان.
وبِما أَن الفتوى بَيانٌ لأحكامِ اللهِ والمفتي في ذلكَ موقِّعٌ عن اللهِ فإن القولَ على اللهِ تعالى بغير علمٍ من أَعظمِ المحرماتِ؛ لما فيه من جُرأةٍ وافتراءٍ على اللهِ وإغواءٍ وإضلالٍ للناسِ، وهو من كبائِر الإثم، قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون . ويقول تعالى: وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ؛ لهذا هاب الفتيا كثير من الصحابة، وتدافعوها بينهم لِمَا جعل الله في قلوبهم من الخوف والرقابة. فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله يُسأل أحدهم عن المسألة فيردَّها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول"، وفي رواية: "ما منهم من أحد يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
أيها المسلمون
ومما ابتليت به الأمة في أوقاتنا هذه أن دخل في الإفتاء أُناسٌ ليسوا أَهلاً لذلك، يَنقصُهُم كثيرٌ من مقوماتِ هذا المنصبِ، فَضلَّوا وأَضلَّوا. ولقد يسَّرت الفضائياتُ ظهورَ أُناسٍ تقلدوا هذا المنصبَ الخطير، وتعلقَ بِهم عوامُ الناسِ، فصاروا يتخوضون في محرماتٍ بِحجةِ أَنه قد أَفتى فيه فلانٌ أو علان. وظَهر ما يُسمى بفقهِ التخفيفِ، واشتهرتَ بَعضُ الأَسماءِ مِمن فَتاواهم غَالبًا تدورُ حولَ التنزيلات للناسِ و الترخيصِ. ولقد عِشنا في زمنٍ سَمعنا فيهِ فَتاوى فيها مُحادةٌ للهِ ورسوله، منها مثلاً القولَ بجوازِ ربا البنوكِ مُحاباةً لمن يَطلبُ ذلكَ من أَصحابِ النفوذِ، مع أَن الله تَعالى حَرم الربا بنصوصِ قطعيةِ الثبوتِ قطعيةَ الدلالةِ، تَجدُ من يُفتي بِمخالفة آثار العلماءِ في كثيرٍ من المسائلِ التي تَخصُ المرأةَ و الغناءَ و أَحكامَ الشريعةِ الغراءِ ، مما لم يكن له دورٌ إيجابي في الخلاف ..و إنما أَثارَ البلبلةَ و أَضعفَ التمسكَ بدينِ اللهِ و لا حولَ و لا قوة إلا بالله .
أيها المسلمون
إن مِن مظاهرِ غُربةِ الإسلامِ في هذا الزمانِ ونَتيجةً لعواملِ التغريبِ التي عَصفت ولا تَزالُ تعصِفُ بالأُمةِ اليوم أَن استهان كَثيرٌ من الناسِ بالحلالِ والحرامِ, وأَخذوا أحكامَ دينهِم من أَي أَحدٍ وتتبعوا الرخص , وتصدَّى للإفتاءِ جماعةٌ يستهويهم الإعلام أكثر من العلم , في جرأةٍ بالغة, وتفشَّى أولئك المثيرون للبلبلة في الفتوى حتى اختلط الأمر على الناس ..و هم إن كانت نيتهم حسنة إلا أن فعلهم هذا مشكلة قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ أاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُون .أصبحتَ ترى بعضَ المتعجلين ممن لا يكادُ يحفظُ شيئًا من كتابِ الله فضلا عن استنباطه، أصبحتَ تراهُ مُصابًا بداء المخالفة , فيفتي بغيرِ علم, ويناقشُ أبا حنيفة و مالك ويُخطئُ الشافعي وابن حنبل , ويردُ على ابن تيمية والذهبي, ويقول: هم رجالٌ ونحنُ رجال. ومن خلالِ هذهِ العبارة يُجيزون لأنفسهمِ الخوضَ فيما لا يعرفون والكلامَ فيما لا يفقهون, ويُحللون ويُحرمون دون علمٍ أو هدى أو كتابٍ منير و بلا مراعاة للأصول الشرعية , بل إنَّهم ليخوضونَ في قضايا محيِّرة، ويتجرؤون على الفتيا في مسائل مستعصية, لو حصلتْ في عهدِ عمرَ رضي الله عنه لجمع لها أهل بدرٍ كلَّهم, بينما ذلكَ المتعاظمُ يصدرُ فيها في قناةٍ فضائية أو صحيفةٍ إعلامية رأَيهُ بكلِّ عجلةٍ وتسرع، ولا يجدُ في صدره من ذلك حرجًا أو غضاضة.
وليتَ الأمر توقفَ على المنتسبينَ للعلم من ذويِ التخصصات الشرعية, بل تعداهُ إلى أُناسٍ يفتقدون حتى المبادئَ الأساسيةِ لأي فنٍ من فنونِ الشريعة، فذاك يُفتي وهو كاتبٌ صحفي, وذاك يُفتي وهو لاعبُ كرة، وذاك يفتي وهو ممثلٌ ماجن, وغيرهمُ كثير.
و إنني هنا لا أغفل دوراً سيئاً للقنوات الفضائية و الصحف التي تنبت مثل هؤلاء ، و أصبحت تضرب الفتاوى ببعضها أمام الناس و تستهزئ بها ، و تأتي بهذا ليناقش ذاك ، و هي ليس هدفها الوصول للحق ونشر العلم و إنما للإثارة و التهويل مما أو جد البلبلة لدى الناس .
و كذلك من المصائبِ الكبرى أن تَجد من كُتابنا و مُثقفينا من يَتعدى الثوابت ليتجرأَ بعد ذلكَ على أَمورِ الدينِ و العلمِ ليخوضَ فيها كَما يَشاءُ و يُقيم الأَحاديثَ النبويةَ التي تعجبه أو لا تعجبه و لا يجد من يحاسبه .
ومن الأخطاءِ الكبيرةِ التي يَقعُ فيها كثير من الناس أنهم يسألون أي أحد، ولا أدري هل هم لا يفرقون أو يبحثون عمن يجيز لهم ما يشتهون؟!
فمثلاً من كان صوته حسنًا وجميلاً في القرآن صار يُستفتى، والمنشد يُستفتى، ومفسِّر الأحلام ومعبّر الرؤى يستفتى، وإمام المسجد الصغير يستفتى، وهكذا... وهذا خطأ فادح أَيُّها الأَحبة، اعرفوا عمن تأخذون دينكم، ولا تسألوا إلا العلماءَ، وليسَ كُل من ظهر في الفضائياتِ أو الإذاعاتِ في برنامج يصلح لأن يُستفتى، فبعضهم قد يكونُ مَجيدًا لبعضِ القضايا التربوية، وبعضهم يحسن الكلام في الأمور الاجتماعية، وآخر متخصص في القضايا النفسية، أما الفقه وأحكام النوازل فهذه للعلماء الراسخين في العلم. ومن هنا وضع العلماء للمفتي شروطًا عدّة لا يتقلّد الإفتاء إلا بتحققها فيه، كالعلم والعدالة والورع والتثبّت وغيرها، ومتى انتفى منها شرط لم يكن من أهل الفتوى.
و المسلم إذا أراد الاستفتاء فإنه يرجع إلى من يثق بعلمه و دينه و أمانته فيأخذ بفتواه لا بالأسهل لأنه يعجبه الرأي أو يتردد على المفتين حتى يجد الفتوى التي تناسبه فهذا خطأٌ كبير .
أيُّها المسلمون
إن الأحكام الشرعية ليست مجالا مفتوحا لكل من هب ودب من صحافيين و مذيعين وعلمانيين ممن لا يفقهُ في الشرع المطهر شيئًا، ومن ثم فلا مجال لأمثالِ هؤلاءِ في مناقشةِ ما ليسَ من اختِصَاصِهم؛ لأنَ فاقد الشيءِ لا يعطيه. ثم إن المجتمعاتِ الإسلاميةِ لها خُصوصيتَها ولها تميزها، وهي بِحُكمِ إِسلامها وإِيمانِها بِدينها تَقبلُ أَحكام الشرعِ المطهر بكلِ رحابةِ صدرٍ، ومحاولةِ تسميم أَفكارِ الناسِ من قبلِ الإعلامِ لزعزعةِ الدينِ و التمسكِ بِه هي ظاهرةٌ يَحرص أعداء الإسلام على إقرارها وتمريرها منذ سنين طويلة، وكلما رفض أعيدت من جديد، وتُرفض لما تحمله من أخطاء معروفة للجميع، ولما فيها من تضليل للأمة والانحراف بها عن الصراط المستقيم لمصالح أجنبية وأهواء شخصية..لكنها مع الأسف وجدت في الآونة الأخيرة قنواتٍ عربية هي التي تقوم بهذا الدور الخبيث في الأمة و تثير البلبلة و بإثارة هذه المواضيع في الناس و هي من تحتاج إلى التأديب و الإصلاح لأنها تحمل راية الفساد .
أيُّها المسلمون
وفي مُقابلِ هذه الجراءةِ البالغةِ على الفتيا يقفُ على النقيضِ من ذلك بعضُ العلماءِ الراسخين, فيتوددون أو يتأخَّرون عن الفتيا مع تأهلهِم لها وقدرتهِم عليها، ويمتنعونَ عن إبداءِ آرائهمِ الشرعية في قضايا الأمةِ المصيرية, ويوقعون الناسَ في حيرةٍ من أمرهم, ويُخيِّبونَ آمالَ الأمةِ في أحرجِ المواقف وأشدّها حاجةً إلى سماعِ كلمةِ الحق, والأمةُ محتاجةٌ إلى سماعِ أقوالِ علمائِها وآرائهمِ عند اشتداد الخَطْب وظهورِ الفتن، حتى لا تزلّ بهمُ الأقدام أو تهوي بهم الريحُ في مكانٍ سحيق، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين فخطرٌ على العلماء و الناس أن يكتموا العلمَ الصحيح، ولا يبينوا الحقَّ الصريح، ويَدَعُوا الأمةَ تتخبطُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال، دون أن يأخذوا بيدِها إلى برَّ الآمان، و لا يخافون في اللهِ لومة لائم.
هذا إمامُ أهلِ السُنةَّ أحمدُ بنُ حنبل رحمه الله يقولُ رأيهُ بكلِ شجاعةٍ ورجولة، لا يمتنعُ من الفُتيا بما يعتقدُهُ من صوابٍ في قضيةِ خلقِ القرآن، ولا يرضى لنفسهِ أن يُضللَ الجماهيرَ المتلهفةِ لسماعِ كلمةِ الفصل أو أن يكتمَ علمًا. الأمة بأمسِّ الحاجة إليه, يقولُ كلمةَ الحقِّ غيرَ هيابٍ ولا وجل، وإن غضبَ المأمون أميرُ المؤمنين وهددَّه بالصلبِ والقتل .. و ابن تيمية رحمه الله كان يبين الحق و الشيخ محمد بن عبد الوهاب انتقض على الشرك الذي كان يراه و أنكره و غيرهم من أهل العلم الذين ينبغي أن يكون لهم دورهم في قضايا الأمة واضح و قراراهم فيها لا يبنى على محاباةٍ أو مصالح .
أيها المسلمون
بالفتاوى الكثيرة التي أعطاها النبي لأصحابه وبالرعاية الإيمانية والعلمية التي أحاطهم بها نشأ خير جيل عرفته الإنسانية في تاريخها، فيه من مجتهدي الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.فتخرج من تلك المدرسة جيلٌ فريدٌ متسلِّحُ بالعلم، بعد أن كان يغُطُّ في جهالة عمياء لا يعرف قراءة ولا كتابة، وكانت فتاوى رسول الله وتوجيهاتِه عاملاً من عوامل تعليمِ الأُمةِ ورفعِ الجهلِ عنها.
الفتوى السليمة تجعل المستفتي على الجادة القويمة، وتبعده عن البدع الذميمة، فتصحح مساره لئلا يزل، وتحذره من البدع لئلا يضل؛ وفي ذلك صلاح الفرد وسلامة المجتمع وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيد .
بالفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها، وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقود ركبه حملة أشرف رسالة. إن الأمة التي تبقى وفيّة لعلمائها تسمع لقولهم وتطيع أمرهم وتأخذ بنصحهم هي أمة مؤهلة للفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة، وكيف لا يتم لها الفوز والله تعالى قد أرشدها لطاعته؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم .
إذا سلمت الفتوى من الشذوذ وتجردت عن تنطع المتنطعين ثم أعطيت للمستفتي على أنها توقيع عن رب العالمين فإنها تكون خير عون على أداء التكاليف الشرعية كما أمر الله تعالى وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُون . وكلما كانت الفتوى سديدة ومعتمدة على الأدلة الصحيحة فإنها تكون أدعى إلى حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله، وفي ذلك إحياء للسنن وإماتة للبدع.
و الخلاف على المسائل الفقهية موجود منذ نشأة الإسلام و لا يستطيع أحدٌ إلغاؤه و لكن المهم كيف نتعامل معه ؟و كيف يتعامل معه العلماء بعدم إثارة البلبلة ..يروى أن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قام بإتمام الصلاة أربعاً في الحج وكان خلفه ابن مسعودٍ رضي الله عنه فأنكر هذا الأمر عليهم فقال له أصحابه : ألا تصلي اثنتين قال و أخالف جماعة المسلمين و إمامهم لا و الله .
بمثل هذا الفكر يتعامل العلماء الربانيون لا بالبحث عن الإثارة و البلبلة .. إن الآثار السيئة لقلة العلم و الحكمة في الفتيا كثيرة و تؤدي بالناس إلى التعدي على حدود الله و انتهاك حرماته بفتوى جائرة .. و ما حال الناس في الأسهم و الديون و سائر المعاملات إلا مثالٌ واضحٌ لذلك .
و يفترض بنا جميعاً أن يكون البحث عن الحق و الدليل الواضح و القول البين هو رائدنا عند البحث عن الفتيا ولو لم يعجبنا الرأي أو يوافق ما نهواه فهذا هو الحق ..و الإثم ما حاك في نفسك و كرهت أن يطلع عليه الناس ..
اللهم أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه و الرضى به ..و أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه و البعد عنه اللهم اشرح صدورنا للإيمان و جنينا الكفر و الفسوق و العصيان .
أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله و حده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده ..و بعد ..
في شهر البر و الإنفاق ..وامتدادً لمبدأ التكافل و الإحسان فإن جمعيات الخير المتنوعة تنتظر تبرعاتكم من زكاةٍ و صدقة في هذا الشهر الكريم لبذله للمحتاجين فجمعياتٌ تهتم بالفقراء و أخرى بالمعاقين و أخرى بنشر العلم و دعوة الجاليات و تعليم القرآن و غير ذلك من برامج ينبغي علينا دعمها بما نجود به في رمضان و هناك جمعية تهتم بفئة خاصة تحتاج للرعاية و التأهيل و هي جمعية رعاية السجناء و أسرهم ..فإنها تقوم ببرامج لرعاية السجناء و الاهتمام بذويهم و تستقبل الزكاة و الصدقة لمشاريعها فبادروا بدعمها مساعدةً لهذه الفئة المحتاجة هو و أهلهم ..نسأل الله أن يخلف عليكم في صدقاتكم و يجعل بذلكم في ميزان حسناتكم إنه سميع مجيب و الحمد لله رب العالمين ..و صلى الله و سلم و بارك على سيد الأنبياء و المرسلين.