• ×

03:05 صباحًا , الأحد 11 ذو القعدة 1445 / 19 مايو 2024

سلامة الصدر

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحمد لله أضاء بنوره الآفاق وأشهد ألا إله إلا الله وحده القوي الرزاق..وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرشدنا لمكارم الأخلاق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه تميزوا بحسن السريرة والنقاء أما بعد فاتقوا الله عباد الله..

واعلموا أنَّ صلاحَ ذاتِ البينِ للجميع بسلامةِ الصدرِ من الغل والحسد والضغائن والرذائل ودينُ الإسلامِ حرصَ بشدة على أن تكونَ الأمةُ أمةً واحدةً في قلبِها وقالبِها، تسودُها عواطفُ الحبِّ المشتركِ والوِدُّ الشائعُ، والتعاونُ على البرِّ والتقوى، والتناصحُ البنَّاء الذي يثمِرُ إصلاحَ الأخطاءِ مع صفاءِ القلوبِ وتآلفِها، دونَ فرقةٍ وغلٍّ وحسدٍ ووقيعةٍ وكيدٍ وبغيٍّ.

أَيها الإخوة..خِصْلةٌ ممدوحة شرعاً وعُرفاً،قلَّ من يتصف بها وهي أبرز صفات أهل الجنة،ومن تحلَّى بها في الدنيا،سعد في الدنيا والآخرة،براحةِ قلبهِ،وطُمأَنينةِ نفسِه،ومحبَّةِ النَّاسِ له..إنها سلامةُ الصدر،من الغلِّ والحسد والحقد والكراهية للناس،ومن كل صفات السوء،قال الله عن أهل الجنة..(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)وهي علامةُ فطرةٍ للقلب..ولقد ضربَ الصحابةُ رضي الله عنهم أروعَ الأمثلةِ في سلامةِ القلوبِ وطهارةِ الصدورِ، كانوا صفًّا واحداً يعطفُ بعضُهم على بعضٍ، ويرحم بعضُهم بعضاً، ويحبُّ بعضُهم بعضاً، كما وصفهم الله(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)ووصفهم الله(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)فسلامة الصدرِ عندَهم منزلةٌ كبرى،بل جعلوها سببَ التفاضلِ بينهم،قال إياسُ بن معاوية بن قرة عن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.."كان أفضلَهم عندَهم أسلمُهم صدراً وأقلُّهم غِيبةً ،ويسأل سفيانُ بن دينارٍ لأبا بشر"أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال.. كانوا يعملون يسيراً ويؤجَرون كثيراً. قال سفيان.. ولم ذاك؟ قال أبو بشر..لسلامة صدورهم جيلٌ صالح كريم..قلوبهم بقيت صافيةً وسليمةً، سرائرُهم طيبةٌ نقية،رغم ما يقعُ بينهم من فتنٍ كبارٍ،أُشهرت فيها السيوفُ واشتبكت فيها الصفوفُ،فلا إله إلا الله،ما أطيبَ المعشرَ وأكرمَه،رأى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه طلحةَ بنَ عبيدِ الله رضي الله عنه في وادٍ ملقى،بعد وقعةِ الجملِ،فنزل رضي الله عنه فمسحَ الترابَ عن وجهِ طلحةَ، وقال.. عزيزٌ عليَّ يا أبا محمد أن أراكَ مُجندلاً في الأوديةِ تحتَ نجومِ السماءِ، إلى اللهِ أشكو عُجَري وبُجَري..

أيها المؤمنون..إن سلامةَ الصَّدرِ خصلةٌ من خِصالِ البرِّ عظيمةٌ، غابت رُسومُها واندثرت معالمُها وخبت أعلامُها،حتى غَدَت عزيزةَ المنالِ عسيرةَ الحصولِ، مع ما فيها من فضائلِ وخيراتِ فهي تنتج مجتمعاً متماسكاً لا تهزه عواصف ولا تؤثّر فيه فتن،سلامة الصدر نعمة ربانية،ومنحة إلهية وهي من أسباب النصر(هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ*وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)وسلامة الصدر سبب في قبول الأعمال،بالحديث عند مسلم«تُعرَض الأعمال كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله -عزَّ وجلَّ- في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول.. انظروا هذين حتى يصطلحا».سبحان الله!!انظر كم يُضيّعُ على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن.والزعل والخصام والقطيعة وخيرهما الذي يبدأ بالسلام!!

سلامةُ الصدر علامة فضل وتشريف،قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال.. «كل مخموم القلب صدوق اللسان»قالوا..صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟قال..«التقيُّ النقيُّ لا إثمَ فيه ولا بَغيَ ولا غِلَّ ولا حَسد»رواه ابن ماجه وصاحب القلب السليم هو من ينجو (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)قال سعيد بن المسيب"القلب السليم هو القلب الصحيح،وهو قلب المؤمن"وسُئل ابن سيرين ما القلب السليم؟قال.."الناصح لله عزَّ وجلَّ في خلقه"أي.. لا غش فيه ولا حسد ولا غل..وروى أحمد عن عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال«يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء»تكرّر ذلك ثلاث مرات بثلاثة أيام، يقول فذهبت إليه لأعرف حينئذٍ عمله وسبب ثنائه صلى الله عليه وسلم عليه فبت عنده ثلاثاً فلم أره كثيرَ صلاةٍ ولا صيام فسألته عن ذلك فقال.."هو ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه..فقلت..هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق"رواه أحمد أفرأيت كيف سمت به سلامة صدره حتى بُشِّر بالجنة ثلاث مرات!

إن من فضائلِ سلامة الصدرِ جمعيةَ القلبِ على الخيرِ والبرِّ والطاعةِ والصلاحِ، فليس أروحَ للمرءِ ولا أطردَ للهمِّ ولا أقرَّ للعينِ من سلامةِ الصدرِ على عبادِ اللهِ المسلمين..البعض يظن أنه بخصومته وقطيعته يرتاح بينما هو بالحقيقة آثم ومتعب!!ومن فضائلِ سلامةِ الصدرِ أنها تقطعُ سلاسلَ العيوبِ وأسبابَ الذنوبِ، فإن من سلِمَ صدرُه وطَهُرَ قلبُه عن الإراداتِ الفاسدةِ والظنونِ السيئةِ عفَّ لسانُه عن الغِيبةِ والنميمةِ وقالةِ السوءِ.

وسلامةُ الصدرِ فيها صِدقُ اقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛أسلمُ الناسِ صدراً وأطيبُهم قلباً وأصفاهُم سريرةً، وشواهدُ هذا في سِيرتِه كثيرةٌ، ليس أعظمَها أن قومَه أدمَوا وجهَه صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ وشجَّوا رأسَه وكسروا رباعيتَه،فكان يسلت الدم ويقول.. «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)وهذا الإمامُ أحمدُ بن حنبل رحمه الله،وقد أوذي وسُجنَ وعُذّبَ عَذاباً شديداً، لكنه بعد تلك المحنة يصفحُ عن كلِّ من أساءَ إليه،فيقول لأحدهم.."أنتَ في حِلٍّ،وكل من ذكرني في حل،إلا مبتدعٌ، وقد جعلت أبا إسحاق في حل"يعني المعتصمَ أميرَ المؤمنين،رأيت الله يقول..(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)ويقول..وما ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟!وله موقف آخر رحمه الله حين قيل له هل نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟قال..إذا لم تكتب عنه فعمن يكون ذلك؟قالها مراراً،فقيل له..إنه يتكلم فيك قال..رجل صالح، ابتُلِي فينا فما نعمل؟" فلم يمنعه كون الرجل يتكلم فيه من تزكيته؛ لأن قلبه قد سلم من الغل والبغضاء والشحناء.وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصفح عن خصومه ومخالفيه قائلاً.."لا أحب أن يُنتصَرَ من أحدٍ بسببِ كذبِه عليَّ أو ظُلمِه وعدوانِه،فإني قد أحللتُ كلَّ مُسلم،والذين كتبوا وظلموا فهم في حل من جهتي"الله أكبر وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحداً أجمع لخصال الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية،وأن أحد تلاميذه بشَّره بموت أكبر أعدائه الذين آذوه،فنهره ابن تيمية وغضب عليه وقال..تبشرني بموت مسلم، واسترجع وقام من فوره، فعزَّى أهل الميت،وقال لهم.."إني لكم مكانه"!!!وهي رسالة لكل من رأى نفسه قوياً ذا منصب ثم ينتقم من مخالفيه ويشي بهم ظلماً أو يتشفى بمصابهم أين أنت من سلامة الصدر؟!وكن واضحاً في كلامك بلا همزٍ ولا غمزٍ ولا لمزٍّ فإنَّ ذلك من علامات سلامة الصدر..واعلم أن سلامة القلب والصدر ليست السذاجة والضعف،وليست قلباً يسهل خداعه والضحك عليه،بل إنها كما قال ابن تيمية القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر،ومآل ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقصٌ فيه لا يُمدحُ به"اللهم أصلح فساد قلوبنا واجعلنا ممن يأتيك بقلب سليم يا رب العالمين، أقول قولي...



الخطبة الثانية ..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..أما بعد

أيها الناس.اعلموا أن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد فتعاهدها بالتصحيح وطيبوا قلوبَكم وطهِّروها من الآفاتِ، كما أمركم الله(وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ)فإن سوءَ الطويةِ وفسادَ الصدورِ ومرضَ القلبِ من باطنِ الإثمِ الذي أُمرتم بتركِه واعلموا أنه لا نجاةَ ولا فلاحَ للعبدِ يومَ القيامةِ، إلا بأن يقدمَ على مولاه بقلبٍ طيِّبٍ سليمٍ،(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)وصاحبُ القلبِ السليمِ مَنْ سَلِمَ صدرُه وعُوفيَ فؤادُه من الشِّركِ والغلِّ والحقدِ والحسدِ والشحِّ والكِبْرِ وحبِّ الدينارِ والرياسةِ،فسلم من كلِّ آفةٍ تبعدُ عن اللهِ تعالى واعلم أن لسلامةِ الصدرِ أسباباً وطرُقاً منها الإخلاصُ للهِ تعالى،قال صلى الله عليه وسلم قال.. «ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امرئٍ مسلمٍ..إخلاصُ العملِ،ومناصحةُ ولاةِ الأمرِ، ولزوم جماعةِ المسلمين ومن أسبابِ سلامةِ الصدرِ..الإقبالُ على كتابِ اللهِ تعالى،الذي أنزله شفاءً لما في الصدورِ،(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)فكلما أقبلت يا عبد الله على كتابِ اللهِ تلاوة وحفظاً وتدبُّراً وفهماً صلُحَ صدرُك وسلم قلبُك ومن أسباب سلامةِ الصدرِ..دعاءُ اللهِ تعالى أن يجعلَ قلبَك سليماً من الضغائنِ والأحقادِ على إخوانِك المؤمنين(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)ومن طرُقِ إصلاحِ القلبِ وسلامةِ الصدرِ..إفشاءَ السلامِ بين المسلمين،قال صلى الله عليه وسلم«والذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدُلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟أفشوا السلام بينكم)رواه مسلم

وقد أجاد من قال.. قد يمكثُ الناسُ دهراً ليس بينَهُمُ وِدٌّ فيزرعُه التسليمُ واللطفُ

ومن أسبابِ سلامةِ الصدرِ.. الابتعادُ عن سوءِ الظنِّ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)فبدأَ بالنهيِّ عن سوءِ الظنِّ؛ لأنه ينتج الإثم والبغي والتدابر والبغض فاليوم وليس غداً طهَّر قلبك من غلٍّ أو حقد]أو ضغينة أو خصومة أو قطيعة على أحد حتى لو اختلفت معه عملاً أو تجارة أو تصرفاً لا تقاطعه أو يحقد عليه وليست مجبراً بإعادة التعامل معه أو صحبته ولكن لا تشغل قلبك بالخصومة والقطيعة وأنزل الناس كل بمنزلته اللهم إنا نسألك صدوراً سليمة وقلوباً طاهرة نقية ،اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وسائر الآفات..وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ..

 0  0  204

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.