• ×

08:38 مساءً , الجمعة 9 ذو القعدة 1445 / 17 مايو 2024

لاتحزن

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الحَمْدُ للهِ،جَعَلَ الحَيَاةَ بَلاَءً وامتِحَاناً،وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ قلب الحياة بين سرورٍ وأحزان،وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ،الصابر على البلاء،صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ الأوفياء وسلم تسليماً..أما بعد فاتقوا الله عباد الله..واعلموا أنَّ اللهَ عز وجل خلَق النفسَ البشريّة في أحسن تقويم،وفضَّلها على كثير ممّن خلق تفضيلاً،وجعل لها مشاعر وانفعالات وعواطف وأحاسيس تعبِّر عنها من خلال ضحكٍ وبُكاءٍ وهمٍّ وحِلْم وغَضَبٍ وحُزنٍ وسرورٍ عبر دواعي متعددة تجلب تلك المشاعر(وأنَّ إلى ربك الْمُنْتَهَى*وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى*وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا)ومن المشاعرِ النفسية شعورُ الحزن والأسف لدى الإنسانِ،يعتريه بين حينٍ وآخر بسببِ دواخل أو عوارِض مصاحبةٍ لَه،والكثيرُ ليس لديهم وعياً ولا تصوراً للحزن كي يحسنوا فهمَه ويُجيدوا التعاملَ معه فقد يُبالغون فيصلونَ لليأسِ عياذاً بالله،في حينِ أنّ الوسط هو العدلُ والإيمان بقوله تعالى(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ )وحكمةُ الله جلّ وعلا ورحمته أن تلكمُ المشاعرَ تتناوَبُ مع الإنسانِ وليست دائمة وإلا كانت مرضاً وهلاكاً أياً كان نوعها فدوام الضحك جنون وقسوة للقلب والحزنُ الدائم مرضٌ للبدن وإنما هي عوارض عند المصائب والنوازل والفرح والسرور!!وأهلُ النار؛لأنَّ أهل الجنة إذا دخلوها نسأل الله أن نكون وإياكم منها يقولون(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)وقال الفضيل رحمه الله إنَّ القلب إن لم يكن فيه حزنٌ كالبيت إذا لم يكن فيه ساكن".إذاً التوازنُ في الاعتدال في استقرار النفس وحُسن تعايشها مع المشاعر،فلا ينبغي للمرءِ أن يطلقَ لنفسه العِنان في المغالاةِ في الحزن والمداومة عليه اعتمادًا على أحاديثَ مكذوبة عليه صلى الله عليه وسلم بأنه كان متواصِلَ الأحزان، أو كما في الخبر الآخر: "إنّ الله يحبّ كلَ قلب حزين".فليس الحزن العابر يقصد فقط وإنما الخطر حينما تتشكل النفس الإنسانية دوماً على الحزن تبدأ منه وتنتهي إليه والله أخبرنا أننا قد نُحبُ شيئاً وهو شرٌ لنا ونكره شيئاً وفيه الخير لنا..ونظرة التفاؤل للحياة مطلب فحينذاك سنجده كما هو الوعد بالحديث النبوي..

ثمانية تجري على الناس كلهم ** وﻻبد للإنسان يلقى الثمانية
سرورٌ وحزنٌ واجتماعٌ وفرقةٌ ** وعسر ويسر ثم سقم وعافية

الحزن نقيضُ الفرَح والسرور،عند وقوع مَكروهٍ أو فواتِ أمرٍ محبوب، وأمّا ما يتعلَّق بالمستقبل فإنه همٌ،وإذا ما اشتدَّ الحزن فإنه جَزَعٌ،أبلغُ من الحزن،نُهِيَ عنه شرعًا وكثرة الحزن سببٌ لضعف البدن رغم أنّه عرَضٌ فِطري ينتابُ البشَر مع صروفِ الحياةِ ومحَنِها،لا يسلم منه أحدٌ؛لأنَّ المرء مبتلًى في هذه الحياة الدنيا لا محالةَ(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)والحزنُ مُرتَهنٌ بالبلاء لكنّه في الوقتِ نفسِه ليس مطلباً شرعياً ولا مستحباً في كثير من صوَرِه،والتوفيق في التعامل معه لا في تحصيلِه وإيجادِه، قال عكرمة[ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن،ولكن اجعَلوا الفرَح شُكرًا والحزنَ صَبرًا]والحزنُ لم يرِد في القرآن إلا منهيًّا عنه(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ)(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)(لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ)(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)والآيات كثيرة.وسبَبُ النهيِ عن الحزن أنه لا مصلحةَ فيه للقلب،بل هو أحبّ شيءٍ للشيطان أن يُحزِّنَ العبدَ ليقطَعَه عن مواصلَةِ طريق الحقّ،كما قال سبحانه وتعالى(إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)وقال صلى الله عليه وسلم"إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَ اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالنّاس من أجل أن ذلك يحزِنَه"رواه مسلم،ويقول عليه الصلاة والسلام والحلمُ تحزينٌ من الشيطان"رواه البخاري ومسلم.

أيّها المسلمون..التعامل الصحيح مع الأحزان فهمٌ عظيم ومن كمال الإسلام تعامله مع المشاعر وهناك من يتعاملُ مع الأحزان في العويلِ واللّطم والانتحار والمصحَّات والعقاقير المهدِّئَة وتعاطي المسكِراتِ والمخدِّرات والغناء والمعازِف ليس إلاَّ،وأمّا شرعنا الحنيف تجاوز ذلك فأصبح الحَزنُ مراحل:

أوّلها:الحزنُ المكروه،الذي يكون على فواتِ أمرٍ من أمور الدنيا، والمرء مطالبٌ بالتغلب عليه(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)

الثاني.. حزنٌ واجبٌ يُعدُّ شرطًا للتوبةِ النصوح،يتمثلُ في الندمِ على فعلِ المعصيةِ،وبحزنٍ في القلب بسبَبِ المعاصي والذنوب لتجديد الإيمان.

الحزن الثالث..مُستحبّ،يكون بسبَب فوات الطاعة وضياعِها على المرء، كما فعله الفقراءُ الذين لم يحمِلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك)وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)فكان حُزنُهم من قوّةِ إيمانهم،حيث تخلّفوا عن رسول الله لعجزِهم عن النفقةِ، بخلاف المنافقين الذين لم يحزَنوا على تخلّفهم، بل غَبطوا نفوسَهم به.

الرابعُ:حزنٌ مباح،يكون بسبَب نازِلة ومصيبةٍ أحلَّت بالمحزون كفقدِ ولدٍ أو قريب كما قال تعالى عن يعقوب عليه السلام(وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)وفعله صلى الله عليه وسلم بموت ولده إبراهيم"إن العينَ لتدمع،وإنّ القلب ليحزن،ولا نقول إلا ما يرضِي الربَّ،وإنّا على فراقك-يا إبراهيم- لمحزونون"رواه البخاري ومسلم..وهكذا الحياة..

طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدها ** صفواً من الأقذاء والأكدار

أما الحزنُ المذموم المحرَّم،عباد الله هو الذي يكون على تخاذلِ المتخاذلين والمُعرضين عن الحقّ وعن شِريعة الله تعالى(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)ويقول(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) وقوله(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)وقوله(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)ويُستثنى من ذلك إذا كان الحزنُ سببُه الاعتبارُ والادّكار واستحضارُ عظمَة الله سبحانه وقدرَتُه على الانتقام من معاندٍ أو مضلٍّ بكى أبو الدرداء رضي الله عنه لما سقطت دولة الأكاسرة تحت أقدام المسلمين،فقال له رجل أتبكي في يومٍ أعزّ الله الإسلامَ وأهله؟!فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه:"ويحك،ما أهونَ الخلق على الله إذا أضاعوا أمرَه، بينما هي أمة قاهرة ظاهرةٌ ترَكوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى

أيها الإخوة..من سعَةِ الإسلام وسماحته أنه لم يدَع شيئًا للأمة فيه خيرٌ إلا دلَّها عليه، ومن ذلك طرُق التعامُل مع الحزن مما يَعتري الإنسانَ،من خلال التعوُّذِ منه قبل وقوعِه،ثم بالمثوبَةِ على الصبر عليه ثم في طريقةِ رفعه وذهابه عن النفس..ومن ذلك كثرةُ تعوذّه منه صلى الله عليه وسلم [اللهمّ إني أعوذ بك من الهمّ والحزن]والصابِرُ على أحزانه قال عنه صلى الله عليه وسلم[ما يصيبُ المرءَ من نصبٍ ولا وَصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكَة يُشاكها، إلا كفّر الله بها خطاياه]رواه البخاري ومسلم.وهناك دواءان ناجحان للهم والحُزن معنويّ روحاني دلَّ عليها نبينا صلوات ربي وسلامه عليه ما قال عبد قطّ إذا أصابه همّ وحزن: اللّهمّ إني عبدك وابن عبدِك وابن أمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عَدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سميتَ به نفسك،أو أنزلتَه في كتابِك، أو علَّمته أحدًا من خلقِك،أو استأثرتَ به في علمِ الغيب عندك،أن تجعلَ القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي،ونورَ صدري، وجلاءَ حزني وذهاب همّي، إلا أذهب الله -عز وجل- همَّه، وأبدله مكانَ حزنه فرحًا"، قالوا: يا رسول الله: ينبغي لنا أن نتعلَّم هؤلاء الكلمات؟!قال"أجل،ينبغي لمن سمِعهنّ أن يتعلَّمهن"رواه أحمد.وصححه الألباني وهناك دواءٌ حسيٌّ مادّيّ يسمَّى التلبينَةِ،طعامٌ يُصنَع من حسَاءِ دَقيقٍ أو نخالة فيه عَسَلٌ أو لَبن أو كِلاهما، لما رواه الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ التّلبينَة تجمّ فؤادَ المريض وتذهب ببعض الحزن"، وقوله: "تجِمّ الفؤادَ" أي: تريحه. رواه البخاري والإيمان كما أنه يُزِيحُ عَن القَلبِ أَثقَالَ الحُزنِ وَيَقشَعُ عَنهُ سَحَائِبَ الهَمِّ، فَلا بُدَّ لِلعَبدِ مِن صَبرٍ يُقَوِّي عَزمَهُ وَيُثَبِّتُ فؤاده، وَدُعَاءٍ صَادِقٍ يَستَعِينُ بِهِ رَبَّهُ وَمَالِكَ قَلبِهِ، وَأَسبَابٍ حِسِّيَّةٍ يَتَنَاوَلُهَا تَنَاوُلَ الدَّوَاءِ، مُتَّكِلاً عَلَى اللهِ مُعتَصِمًا بِهِ،فالله يخاطب نبيّه صلى الله عليه وسلم( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)والنفوس السليمة تتعامل بعقلانية وصبر مع الأحزان باليقين بما عند ربها والإيمان والاعتماد على التوحيد والأذكار ودوام العبادات وقراءة القرآن فهو للذين آمنوا هدىً وشفاء (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)والأصل أنك لست محدودٌ والرزق المقسوم والله هُوَ خَالِقُ الكَونِ وَمُدَبِّرُهُ بما فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ الأُمُورَ بِسَمَاحَةٍ نَفسٍ، وَسعَةِ صَدرٍ، وَطِيبِ قَلبٍ، مُوقِنًا أَنَّهُ لَيسَ أول من يصابُ مِنَ النَّاسِ، مُستَحضِرًا أَنَّهُ حَتى أَنبِيَاءُ اللهِ وَأَولِيَاؤُهُ لم يَسلَمُوا في هَذِهِ الدُّنيَا أَن يُصِيبَهُم نَصِيبٌ مِنَ الحُزنِ وَالهَمِّ، حينما يُفكّر كذلك يكتسب رَاحَةً وطمأنينة وأنسًا، وَينسى كُلَّ هَمٍّ، وَيبتعَدَ عَنهُ كُلَّ غَمٍّ..اللهم أذهب عنا الحزن والغم والهم وأسعدنا يا ألله بطاعتك واشرح صدرونا بمغفرتك..

الخطبة الثانية..الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..

ها هنا تحذير أيها الإخوة فمما يتزامن مع الحزن حُبُّ العزلة والانعزال وتبرير ذلك بأسباب غير صحيحة مما يورث الاكتئاب والأمراض ويسهل للشيطان الوساوس على الإنسان واعلم أن مخالطة الناس بعدلٍ وحكمةٍ والمشاركة في عمل الخير المجتمعي والتطوعي سبب للسعادة والتعويض والرزق وقبل ذلك وبعده هو عبادة ورضا من الله سئل الحسن رحمة الله[من أين يأتي الهم والحزن فقال:من قلة الرضا عن الله]..

اللّهمّ اسقِ قلوبنا بِذكركَ حتّى تُروىٰ واشْبع أرواحنا بطاعتك حتّى تَقوىٰ وكُن بِنا رؤوفاً رحيماً فلا ملجأَ لنا سِواك ولا مَأوىٰ ..الّلهمّ أَسعِد قلوبنا بما أنتَ أعْلَمُ بِهِ مِنّا اللّهمّ أسْعدنَا سعادتي الدّنْيا بِخيرِها والجنّةِ بِفردَوسها يا أرحم الراحمين

 0  1  490

Powered by Dimofinf cms Version 4.0.0
Copyright© Dimensions Of Information Ltd.